الآيات 45 - 48

﴿45 قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَـرَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَّنْ إِلَـهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الاَْيَـتِ ثمّ هُمْ يَصْدِفُونَ46 قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتَـكُمْ عَذَابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّـلِمُونَ47 وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ ءَامَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَهُمْ يَحْزَنُونَ48 وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِأَيَـتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾

التّفسير

اعرفوا واهب النعم!

الخطاب ما يزال موجهاً إِلى المشركين.

في هذه الآيات حثّ إِستدلالي على إِيقاظهم ببيان آخر يعتمد غريزة دفع الضرر، فيبدأ بالقول: إِنّه إِذا سلب منكم الله النعم الثمينة التي وهبها لكم، مثل السمع والبصر، وأغلق على قلوبكم أبواب التمييز بين الحسن والسيء، والحقّ الباطل، فمن يا ترى يستطيع أن يعيد إِليكم تلك النعم؟ (قل أرأيتم إِن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إِله غير الله يأتيكم به).

في الواقع، كان المشركون أنفسهم يعتقدون أنّ الخالق والرازق هو الله، وكانوا يعبدون الأصنام للإِستشفاع بها عند الله.

والقرآن يحثّهم على الإِتجاه المباشر نحو الله مصدر كل الخيرات والبركات بدل الإِتجاه إِلى أصنام لا قيمة لها.

وإِضافة إِلى ما كان يحمله عبدة الأصنام من اعتقاد بالله، فإِنّ القرآن استجوب عقولهم هنا لإِبداء رأيها وحكمها في أمر أصنام لا تملك هي نفسها عيناً ولا أذناً ولا عقلا ولا شعوراً، فهل يمكنها أن تهب أمثال هذه النعم للآخرين؟!

ثمّ تقول الآية: اُنظر إِلى هؤلاء الذين نشرح لهم الآيات والدلائل بمختلف الوسائل، ولكنّهم مع ذلك يعرضون عنها: (اُنظر كيف نصرّف الآيات ثمّ هم يصدفون).

وفيما يتعلق بمعنى "ختم" وسبب ورود "سمع" بصيغة المفرد، و"أبصار" بصيغة الجمع في القرآن راجع المجلد الاُوّل من هذا التّفسير، (92).

"نصرف" من "التصريف" بمعنى "التغيير"، والكلمة هنا تشير إِلى مختلف الإِستدلالات في صور متنوعة.

و"يصدفون" من "صدف" بمعنى "الجانب" و"الناحية" أي أنّ المعرض عن شيء يدير وجهه إِلى جانب أو ناحية أُخرى.

وهذه الكلمة تستعمل بمعنى الإِعراض أيضاً، ولكنه "الإِعراض الشديد" كما يقول الراغب الأصفهاني.

تشير الآية الثّانية، بعد ذكر هذه النعم الثلاث "العين والأذن والإِدراك" التي هي منبع جميع نعم الدنيا والآخرة - إِلى إِمكان سلب هذه النعم كلها دفعة واحدة، فتقول: (قل أرأيتكم إِن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إِلاّ القوم الظّالمون) (1).

"بغتة" بمعنى "فجأة" و"جهرة" بمعنى "الظاهر" والعلانية، والمألوف استعمال "سرّاً" في مقابل "جهرة" لا "بغتة"، ولكن لما كانت مقدمات العمل المباغت خافية غالباً، إِذ لولا خفاؤه لما كان مباغتاً، فإِن في "بغتة" يكمن معنى الخفاء والسرية أيضاً.

والقصد هو أنّ القادر على إِنزال مختلف العقوبات، وسلب مختلف النعم هو اللّه وحده، وإِنّ الأصنام لا دور لها في هذا أبداً، لذلك ليس ثمّة ما يدعو إِلى اللجوء إِليها، لكن الله لحكمته ورحمته لا يعاقب إِلاّ الظالمين.

ومن هذا يستفاد أنّ للظلم معنى واسعاً يشمل أنواع الشرك والذنوب، بل إِنّ القرآن يعتبر الشرك ظلماً عظيماً، كما قال لقمان لابنه: (لا تشرك بالله إِنّ الشرك لظلم عظيم) (2).

الآية الثالثة تشير إِلى مركز الأنبياء، فتقول: ليست الأصنام العديمة الروح هي وحدها العاجزة عن القيام بأي أمر، فإِن الأنبياء العظام والقادة الإِلهيين أيضاً لا عمل لهم سوى إِبلاغ الرسالة والإِنذار والتبشير، فكل ما هنالك من نعم إِنّما هي من الله وبأمره، وأنّهم إِن أرادوا شيئاً طلبوه من الله: (وما نرسل المرسلين إِلاّ مبشرين ومنذرين).

والإِحتمال الآخر في ربط هذه الآية بالآيات السابقة هو أنّ تلك الآيات كانت تتكلم عن البشارة والإِنذار، وهنا يدور القول على أنّ هذا هو هدف بعثة الأنبياء، فهم مبشرون ومنذرون.

ثمّ تقول: إِنّ طريق النجاة ينحصر في أمرين، فالذين يؤمنون ويصلحون أنفسهم (ويعملون الصالحات) فلا خوف عليهم من العقاب الإِلهي، ولا حزن على أعمالهم السابقة.

(فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون).

أمّا أُولئك الذين لا يصدقون بآياتنا، بل يكذبون بها فإِنّ عقابهم على فسقهم وعصيانهم عذاب من الله: (والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون).

من الجدير بالإِنتباه أنّ الآية ذكرت عقاب الذين يكذبون بآيات الله بعبارة (يمسهم العذاب)، فكأنّ هذا العقاب يطاردهم في كل مكان حتى يشملهم بأشد ما يكون من العذاب.

كذلك ينبغي القول أنّ لكلمة "فسق" معنى واسعاً أيضاً، يشمل كل أنواع العصيان والخروج عن طاعة الله وعبوديته وحتى الكفر في بعضى الأحيان، وهذا المعنى هو المقصود في هذه الآية، لذلك لا محل للبحوث التي عقدها الفخر الرازي ومفسّرون آخرون بشأن معنى "الفسق" وشمولها الذنوب، ومن ثمّ الدفاع عن ذلك.


1- شرحنا معنى "أرأيتكم" عند تفسير الآية 40 من هذه السورة وقلنا: ليس هناك ما يدعوا إِلى اعتبار المعنى "أخبروني" بل المعنى هو "أعلمتم"؟.

2- لقمان، 13.