الآيتان 34 - 35

﴿34 وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِىَ نَفَقَاً فِى الاَْرْضِ أَوْ سُلَّماً فِى السَّمَآءِ فَتَأْتِيَهُم بِأَيَة وَلَوْ شَآءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَـهِلِينَ35 إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾

التّفسير

الأموات المتحركون:

هاتان الآيتان استمرار لمواساة النّبي (ص) التي بدأت في الآيات السابقة لقد كان رسول الله (ص) يشعر بالحزن العميق لضلال المشركين وعنادهم، وكان يود لو أنّه استطاع أن يهديهم جميعاً إِلى طريق الإِيمان بأية وسيلة كانت.

فيقول الله تعالى: (وإن كان كبُر عليك اعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلّماً فتأتيهم بآية) (1).

أي إِذا كان إعراض هؤلاء المشركين يصعب ويثقل عليك، فشق أعماق الأرض أو ضع سلّماً يوصلك إِلى السماء للبحث عن آية - إن استطعت - ولكن اعلم أنّهم مع ذلك لن يؤمنوا بك.

"النفق" في الأصل "النقب" وهو الطريق النافذ، والسرب في الأرض النافذ فيها، ومنه النفاق، وهو الدخول في الشرع من باب والخروج عنه من باب، أي أنّ للمنافق سلوكاً ظاهراً وآخر خفياً.

في هذه الآية يخبر الله نبيّه بأن ليس في تعليماتك ودعوتك وسعيك أي نقص، بل النقص فيهم لأنّهم هم الذين رفضوا قبول الحقّ، لذلك فانّ أي مسعى من جانبك لن يكون له أثر فلا تقلق.

ولكن لكيلا يظن أحد أنّ الله غير قادر على حملهم على التسليم يقول: (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى) أي لو أراد حملهم على الإِستسلام والرضوخ لدعوتك والإِيمان بالله لكان على ذلك قديراً.

غير أنّ الإِيمان الإِجباري لا طائل تحته، إنّ خلق البشر للتكامل مبني على أساس حرية الإِختيار والإِرادة، ففي حالة حرية الإِختيار وحدها يمكن تمييز "المؤمن" من "الكافر"، و"الصالح" من "غير الصالح" و"المخلص" من "الخائن" و"الصادق" من "الكاذب".

أمّا في الإِيمان الإِجباري فلن يكن ثمّة اختلاف بين الطيب والخبيث، وعلى صعيد الإِجبار تفقد كل هذه المفاهيم معانيها تماماً.

ثمّ يقول سبحانه لنبيّه: (فلا تكونن من الجاهلين)، أي لقد قلت هذا لئلا تكون من الجاهلين، أي لا تفقد صبرك ولا تجزع، ولا يأخذك القلق بسبب كفرهم وشركهم.

وما من شك أنّ النّبي (ص) كان يعلم هذه الحقائق ولكن الله ذكرها له من باب التطمين وتهدئة الروع، تماماً كالذي نقوله نحن لمن فقد إبنه: لا تحزن فالدنيا فانية، سنموت جميعاً، وأنت ما تزال شاباً ولسوف ترزق بابن آخر، فلا تجزع كثيراً.

فلا ريب أنّ فناء دار الدنيا، أو كون المصاب شاباً ليسا مجهولين عنده، ولكنها أُمور تقال للتذكير.

على الرّغم من أنّ هذه الآية من الآيات التي تنفي الإِجبار والإِكراه، فإِنّ بعض المفسّرين كالرّازي، يعتبرها من الأدلة على "الجبر" ويستند إِلى (ولو شاء...) ويقول: يتّضح من هذه الآية أنّ الله لا يريد للكفار أن يؤمنوا! ولكنّه غفل عن أنّ الإِرادة والمشيئة في هذه الآية هما الإِجباريتان، أي أنّ الله لا يريد الناس أن يؤمنوا بالإِجبار والإِكراه، بل يريدهم أن يؤمنوا بإِختيارهم وإرادتهم، وعليه فانّ هذه الآية دليل قاطع يدحض مقوله "الجبريين".

في الآية التي تليها استكمال لما سبق ومزيد من المواساة للرسول الكريم (ص)، فتقول الآية (إِنّما يستجيب الذين يسمعون).

أمّا الذين هم في الواقع أشبه بالأموات فأنّهم لا يؤمنون حتى يبعثهم الله يوم القيامة: (والموتى يبعثهم الله ثمّ إِليه يرجعون) (2).

يومئذ، وبعد أن يروا مشاهد يوم القيامة يؤمنون، إِلاّ أنّ إيمانهم ذاك لا ينفعهم شيئاً، لأنّ رؤية مناظر يوم القيامة العظيمة تحمّل كل مشاهد على الإِيمان فيكون نوعاً من الإِيمان الإِضطراري.

ومن نافلة القول أنّ "الموتى" في هذه الآية لا تشير إِلى الموت الجسماني في الأفراد، بل الموت المعنوي، فالحياة والموت نوعان: حياة وموت عضويان، وحياة وموت معنويان، كذلك أيضاً السمع والبصر، عضويان ومعنويان فكثير ما نصف المبصرين السامعين الأحياء الذين لا يدركون الحقائق بأنّهم عمي أو صم أو حتى أموات، إِذ إِنّ رد الفعل الذي يصدر عادة من الإِنسان الحي البصير السامع إزاء الحقائق لا يصدر من هؤلاء.

أمثال هذه التعبيرات كثيرة في القرآن، ولها عذوبة، وجاذبية خاصّة، بل إِنّ القرآن لا يعير أهمية كبيرة للحياة المادية البايلوجية التي تتمثل في "الأكل والنوم والتنفس" وإِنّما يعني أشد العناية بالحياة الإِنسانية المعنوية التي تتمثل في تحمل التكاليف والمسؤولية والإِحساس واليقظة والوعي.

لابدّ من القول أيضاً: إِنّ المعنوي من العمى والصمم والموت ينشأ من ذات الأفراد، لأنّهم - لإِستمرارهم في الإِثم وإِصرارهم عليه وعنادهم - يصلون إِلى تلك الحالة.

إِنّ من يغمض عينيه طويلا يصل إِلى حالة يفقد فيها تدريجياً قوة البصر، وقد يبلغ به الأمر إِلى العمى التام، كذلك الذي يغمض عين روحه عن رؤية الحقائق طويلا يفقد بصيرته المعنوية شيئاً فشيئاً.


1- جملة (إن استطعت ...) جملة شرطية جوابها محذوف، تقديره "إن استطعت ... فافعل ولكنّهم لا يمؤمنون".

2- من حيث الاعراب "الموتى" مبتدأ، و"يبعثهم الله" خبر، ومعنى ذلك هو أنّ هؤلاء لا يطرأ على حالهم أي تغيير حتى يبعثهم الله يوم القيامة فيرون الحقائق.