الآيتان 32 - 33
﴿32 قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِى يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَـكِنَّ الظَّـلِمِينَ بِأَيَـتِ اللهِ يَجْحَدُونَ33 وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَـهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَـتِ اللهِ وَلَقَدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِى الْمُرْسَلِينَ﴾
التّفسير
المصلحون يواجهون الصعاب دائماً:
لا شك أنّ رسول الله (ص) في نقاشاته المنطقية ومحاوراته الفكرية مع المشركين المعاندين المتصلبين، كان يواجه منهم المعاندة واللجاجة والتصلب والتعنت، بل كانوا يرشقونه بتهمهم، ولذلك كله كان النّبي (ص) يشعر بالغم والحزن، والله تعالى في مواضع كثيرة من القرآن يواسي النّبي (ص) ويصبّره على ذلك، لكي يواصل مسيرته بقلب أقوى وجأش أربط، كما جاء في هذه الآية: (قد نعلم أنّه ليحزنك الذي يقولون)، فاعلم أنّهم لا ينكرونك أنت، بل هم ينكرون آيات الله، ولا يكذبونك بل يكذبون الله: (فأنّهم لا يكذّبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون).
ومثل هذا القول شائع بيننا، فقد يرى "رئيس" أنّ "مبعوثه" إِلى بعض الناس عاد غاضباً، فيقول له: "هوّن عليك، فان ما قالوه لك إِنّما كان موجهاً إِليّ، وإِذا حصلت مشكلة فأنّا المقصود بها، لا أنت" وبهذا يسعى إِلى مواساة صاحبه والتهوين عليه.
ثمّة مفسّرون يرون للآية تفسيراً آخر، لكن ظاهر الآية هو هذا الذي قلناه، ولكن لا بأس من معرفة هذا الاحتمال القائل بأن معنى الآية هو: إِنّ الذين يعارضونك هم في الحقيقة مؤمنون بصدقك ولا يشكون في صحة دعوتك، ولكن الخوف من تعرض مصالحهم للخطر هو الذي يمنعهم من الرضوخ للحق، أو أنّ الذي يحول بينهم وبين التسليم هو التعصب والعناد.
يتبيّن من كتب السيرة أنّ الجاهليين - بما فيهم أشدّ المعارضين للدّعوة - كانوا يعتقدون في أعماقهم بصدق الدعوة، ومن ذلك ما روي أنّ رسول الله (ص) لقي أبا جهل فصافحه أبو جهل، فقيل له في ذلك، فقال: والله إِني لأعلم أنّه صادق، ولكنا متى كنّا تبعاً لعبد مناف! (أي أنّ قبول دعوته سيضطرنا إِلى اتباع قبيلته).
وورد في كتب السيرة أنّ أبا جهل جاء في ليلة متخفياً يستمع قراءة النّبي (ص)، كما جاء في الوقت نفسه أبو سفيان والأخنس بن شريق، ولا يشعر أحد منهم بالآخر فاستمعوا إِلى الصباح، فلمّا فضحهم الصبح تفرقوا، فجمعتهم الطريق، فقال كل منهم للآخر ما جاء به، ثمّ تعاهدوا أن لا يعودوا، لما يخافون من علم شبان قريش بهم لئلا يفتتنوا بمجيئهم، فلمّا كانت اليلة الثّانية جاء كل منهم ظاناً أنّ صاحبيه لا يجيئان لما سبق من العهود، فلمّا أصبحوا جمعتهم الطريق مرّة ثانية فتلاوموا، ثمّ تعاهدوا أن لا يعودوا، فلمّا كانت اللية الثالثة جاؤوا أيضاً، فلما أصبحوا تعاهدوا أن لا يعودا لمثلها، ثمّ تفرقوا فلمّا أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثمّ خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته، فقال: اخبرني - يا أبا حنظلة - عن رأيك فيما سمعت من محمّد؟
قال: يا أبا ثعلبة، واللّه لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء، ما عرفت معناها ولا ما يراد بها.
قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به.
ثمّ خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه بيته فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمّد؟
قال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد المناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا (أي أعطوا الناس ما يركبونه) فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إِذا تجاثينا على الركب وكنّا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبداً، ولا نصدقه، فقام عنه الأخنس وتركه.
وروي أنّه التقى أخنس بن شريق وأبو جهل بن هشام فقال له: يا أبا الحكم، اخبرني عن محمّد أصادق هو أم كاذب، فإِنّه ليس ها هنا أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا، فقال أبو جهل: ويحك والله إِنّ محمّداً لصادق وما كذب قط، ولكن إِذا ذهب بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والندوة والنّبوة فماذا يكون لسائر قريش؟! (1)
يتبيّن من هذه الرّوايات وأمثالها أنّ كثيراً من أعداء رسول الله (ص) الألداء كانوا في باطنهم يعترفون بصدق ما يقول، إِلاّ أنّ التنافس القبلي وما إِلى ذلك، لم يكن يسمح لهم بإعلان ما يعتقدون، أو لم تكن لديهم الشجاعة على ذلك.
إنّنا نعلم أنّ مثل هذا الإِعتقاد الباطني ما لم يصاحبه التسليم، لن يكون له أي أثر، ولا يُدخل الإِنسان في زمرة المؤمنين الصادقين.
الآية الثّانية تستأنف مواساة الرّسول (ص) وتبيّن له حال من سبقه من الأنبياء، وتؤكّد له أنّ هذا ليس مقتصراً عليه وحده، فالأنبياء قبله نالهم من قومهم مثل ذلك أيضاً: (ولقد كذّبت رسل من قبلك).
ولكنّهم صبروا وتحملوا حتى انتصروا بعون الله: (فصبروا على ما كذبوا واوذوا حتى أتاهم نصرنا) وهذه سنة إِلهية لا قدرة لأحد على تغييرها: (ولا مبدل لكلمات الله).
وعليه، فلا تجزع ولا تبتئس إِذا ما كذبك قومك وآذوك، بل اصبر على معاندة الأعداء وتحمل أذاهم، واعلم أنّ الإِمدادات والألطاف الإِلهية ستنزل بساحتك بموجب هذه السنة، فتنتصر في النهاية عليهم جميعاً، وإِنّ ما وصلك من أخبار الأنبياء السابقين عن مواجهتهم الشدائد والمصاعب وعن ثباتهم وصبرهم وانتصارهم في النهاية، لهو شهادة بيّنة لك: (ولقد جاءك من نبأ المرسلين).
تشير هذه الآية - في الواقع - إِلى مبدأ عام هو أنّ قادة المجتمع الصالحين الذين يسعون لهداية الشعوب عن طريق الدعوة إِلى مبادىء وتعاليم بناءة، وبمحاربة الأفكار المنحطة والخرافات السائدة والقوانين المغلوطة في المجتمع، يواجهون معارضة شديدة من جانب فريق الإِنتهازيين الذين يرون في انتشار تلك التعاليم والمبادىء البناءة خطراً يتهدد مصالحهم، فلا يتركون وسيلة إِلاّ استخدموها لترويج أهدافهم المشؤومة، ولا يتورعون حتى عن التوسل بالتكذيب والإِتهام، والحصار الإِجتماعي، والإِيذاء والتعذيب، والسلب والنهب، والقتل، وبكل ما يخطر لهم من سلاح لمحاربة أُولئك المصلحين.
إِلاّ أنّ الحقيقة، بما فيها من قوة الجاذبية والعمق، وبموجب السنة الإِلهية، تعمل عملها وتزيل من الطريق كل تلك الأشواك، إِلاّ أنّ شرط هذا الإِنتصار هو الصبر والمقاومة والثبات.
تعبر هذه الآية عن السنن بعبارة "كلمات الله"، لأنّ الكلم والكلام في الأصل التأثير المدرك بإِحدى الحاستين، السمع أو البصر، فالكلام مدرك بحاسة السمع، والكلم بحاسة البصر، وكلمته: جرحته جراحة بان تأثيرها، ثمّ كان توسع في إِطلاق "الكلمة" على الألفاظ والمعاني وحتى على العقيدة والسلوك والسنة والتعاليم.
1- الرّوايات المذكورة مستقادة من تفسير "المنار" و"مجمع البيان" في ذيل الآية المذكورة.