الآيات 28 - 31

﴿28 وَقَالُوا إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ29 وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَـذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ30 قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَآءِ اللهِ حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَـحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَسَآءَ مَايَزِرُونَ31 وَمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الاَْخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾

التّفسير

في تفسير الآية الاُولى احتمالان:

الأوّل: أنّها إِستئناف لأقوال المشركين المعاندين المتصلبين الذين يتمنون - عندما يشاهدون أهوال يوم القيامة - أن يعودوا إِلى دار الدنيا ليتلافوا ما فاتهم، ولكن القرآن يقول إِنّهم إِذا رجعوا لا يتجهون إِلى جبران ما فاتهم، بل يستمرون على ما كانوا عليه، وأكثر من ذلك فإِنّهم يعودون إِلى إِنكار يوم القيامة (وقالوا إِن هي إِلاّ حياتنا الدّنيا وما نحن بمبعوثين) (1).

الاحتمال الثّاني: أنّ الآية تشرع بكلام جديد يخصّ نفراً من المشركين ممّن كفروا بالمعاد كلياً، فقد كان بين مشركي العرب فريق لا يؤمنون بالمعاد، وفريق آخر يؤمنون بنوع من المعاد.

الآية التّالية تشير إِلى مصيرهم يوم القيامة، يوم يقفون بين يدي الله: (ولو ترى إِذ وقفوا على ربّهم قال أليس هذا بالحقّ)، فيكون جوابهم أنّهم يقسمون بأنّه الحقّ: (قالوا بلى وربّنا).

عندئذ: (قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) لا شك أنّ "الوقوف بين يدي الله" لا يعني إِنّ لله مكاناً، بل يعني الوقوف في ميدان الحساب للجزاء، كما يقول بعض المفسّرين، أو أنّه من باب المجاز، مثل قول الإِنسان عند أداء الصّلاة أنّه يقف بين يدي الله وفي حضرته.

الآية التي بعدها فيها، إِشارة إِلى خسران الذين ينكرون المعاد، فتقول: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله)، إِنّ المقصود بلقاء الله هو - كما قلنا من قبل - اللقاء المعنوي والإِيمان الشهودي (الشهود الباطني)، أو هو لقاء مشاهد يوم القيامة والحساب والجزاء.

ثمّ تبيّن الآية أنّ هذا الإِنكار لن يدوم، بل سيستمر حتى قيام يوم القيامة، حين يرون أنفسهم فجأة أمام مشاهده الرهيبة، ويشهدون بأعينهم نتائج أعمالهم، عندئذ ترتفع أصواتهم بالندم على ما قصروا في حق هذا اليوم: (حتى إِذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها).

و"الساعة" هي يوم القيامة، و"بغتة" تعني فجأة وعلى حين غرة، إِذ تقوم القيامة دون أن يعلم بموعدها أحد سوى الله تعالى، وسبب إِطلاق "الساعة" على يوم القيامة إمّا لأنّ حساب الناس يجري سريعاً فيها، أو للإِشارة إِلى فجائية حدوث ذلك، حيث ينتقل الناس بسرعة خاطفة من عالم البرزخ إِلى عالم القيامة.

و"التحسر" هو التأسف على شيء، غير أنّ العرب عند تأثرهم الشديد يخاطبون "الحسرة" فيقولون: "يا حسرتنا"، فكأنّهم يجسدونها أمامهم ويخاطبونها.

ثمّ يقول القرآن الكريم (وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم).

"الأوزار" جمع "وزر" وهو الحمل الثقيل، وتعني الأوزار هنا الذنوب، ويمكن أن تتخذ هذه الآية دليلا على تجسد الأعمال، لأنّها تقول إِنّهم يحملون ذنوبهم على ظهورهم، ويمكن أيضاً أن يكون الاستعمال مجازياً كناية عن ثقل حمل المسؤولية، إِذ أنّ المسؤوليات تشبه دائماً بالحمل الثقيل.

وفي آخر الآية يقول الله تعالى: (ألا ساء ما يزرون).

في هذه الآية جرى الكلام على خسران الذين ينكرون المعاد، والدليل على هذا الخسران واضح، فالإِيمان بالمعاد، فضلا عن كونه يعد الإِنسان لحياة سعيدة خالدة، ويحثه على تحصيل الكمالات العلمية والعملية، فان له تأثيراً عميقاً على وقاية الإِنسان من التلوث بالذنوب والآثام، وهذا ما سوف نتناوله - إِن شاء الله - عند بحث الإِيمان بالمعاد وأثره البناء في الفرد والمجتمع.

ثمّ لبيان نسبة الحياة الدنيا إِلى الحياة الآخرة، يقول الله تعالى: (وما الحياة الدنيا إِلاّ لعب ولهو) فهؤلاء الذين اكتفوا بهذه الحياة، ولا يطلبون غيرها، هم أشبه بالأطفال الذين يودون أن لو يقضوا العمر كلّه في اللعب واللهو غافلين عن كل شيء.

إِنّ تشبيه الحياة الدنيا باللهو واللعب يستند إِلى كون اللهو واللعب من الممارسات الفارغة السطحية التي لا ترتبط بأصل الحياة الحقيقية، سواء فاز اللاعب أم خسر، إِذ كل شيء يعود إلى حالته الطبيعية بعد اللعب.

وكثيراً ما نلاحظ أنّ الأطفال يتحلقون ويشرعون باللعب، فهذا يكون "أميراً" وذاك يكون "وزيراً" وآخر "لصاً" ورابع يكون "قافلة"، ثمّ لا تمضي ساعة حتى ينتهي اللعب ولا يكون هناك "أمير" ولا "وزير" ولا "لص" ولا "قافلة"! أو كما يحدث في المسرحيات أو التمثيليات، فنشاهد مناظر للحرب أو الحبّ أو العداء تتجسد على المسرح، ثمّ بعد ساعة يتبدد كل شيء.

والدنيا أشبه بالتمثيلية التي يقوم فيها الناس بتمثيل أدوار الممثلين، وقد تجتذب هذه التمثيلية الصبيانية حتى عقلاءنا ومفكرينا، ولكن سرعان ما تسدل الستارة وينتهي التمثيل.

"لعب" على وزن "لزج" من "اللعاب" على وزن "غبار" وهو الماء الذي يتجمع في الفم ويسيل منه، فإِطلاق لفظة "اللعب" على اللهو والتسلية جاء للتشابه بينه وبين اللعاب الذي يسيل دون هدف.

ثمّ تقارن الآية حياة العالم الآخر بهذه الدنيا، فتقول: (وللدار الآخرة خير للذي يتقون أفلا تعقلون).

فتلك حياة خالدة لا تفنى في عالم أوسع وعلى أرفع، عالم يتعامل مع الحقيقة لا المجاز ومع الواقع لا الخيال، عالم لا يشوب نعمه الألم والعذاب، عالم كلّه نعمة خالصة لا ألم فيه ولا عذلب.

ولكن إدراك هذه الحقائق وتمييزها عن مغريات الدنيا الخداعة غير ممكن لغير المفكرين الذين يعقلون، لذلك إتجهت الآية إليهم بالخطاب في النهاية.

في حديث رواه هشام بن الحكم عن الامام موسى بن جعفر (ع) قال: "يا هشام إنّ اللّه وعظ أهل العقل ورغبهم في الآخرة فقال: (وما الحياة الدّنيا إلاّ لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذي يتقون أفلا تعقلون) (2) غني عن القول أنّ هدف هذه الآيات هو محاربة الانشداد بمظاهر عالم المادة ونسيان الغاية النهائية، أمّا الذين جعلوا الدنيا وسيلة للسعادة فهم يبحثون - في الحقيقة - عن الآخرة، لا الدنيا.


1- بحسب هذا الإِحتمال "وقالوا" معطوفة على "عادوا" وهذا ما يقول به صاحب تفسير "المنار".

2- تفسير "نور الثقلين"، ج1، ص711.