الآيتان 26 - 27

﴿26 وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَـلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بَأَيَـتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنينَ27 بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَـذِبُونَ﴾

التّفسير

يقظة عابرة عقيمة:

في هاتين الآيتين إِشارة إِلى بعض مواقف عناد المشركين، وفيهما يتجسد مشهد من مشاهد نتائج أعمالهم لكي يدركوا المصير المشؤوم الذي ينتظرهم فيستيقظون، أو تكون حالهم - على الأقل - عبرة لغيرهم، فتقول الآية: (ولو ترى إِذ وُقفوا على النّار...) (1) لتبيّن لك مصيرهم السيىء المؤلم.

إِنّهم في تلك الحال على درجة من الهلع بحيث أنّهم يصرخون: ليتنا نرجع إِلى الدنيا لنعوض عن أعمالنا القبيحة، ونعمل للنجاة من هذا المصير المشؤوم، ونصدق آيات ربّنا، ونقف إِلى جاب المؤمنين: (فقالوا يا ليتنا نُردّ ولا نكذّب بآيات ربّنا ونكون من المؤمنين) (2).

الآية التّالية تؤكّد أن ذلك ليس أكثر من تمن كاذب، وإِنّما تمنوه لأنّهم رأوا في ذلك العالم كل ما كانوا يخفونه - من عقائد ونيات وأعمال سيئة - مكشوفاً أمامهم، فاستيقظوا يقظة مؤقتة عابرة: (بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل).

غير أن هذه اليقظة ليست قائمة ثابتة، بل إِنّها قد حصلت لظروف طارئة، ولذلك فحتى لو افترضنا المستحيل وعادوا إِلى هذه الدنيا مرّة أُخرى لفعلوا ما كانوا يفعلونه من قبل وما نهوا عنه: (ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه) لذلك فهم ليسوا صادقين في تمنياتهم ومزاعمهم (وإنّهم لكاذبون).

ملاحظات:

1 - يتبيّن من ظاهر (بدا لهم) أنّهم لم يكونوا يخفون كثيراً من الحقائق عن الناس فحسب، بل كانوا يخفونها حتى عن أنفسهم، فتبدوا لهم جلية يوم القيامة، وليس في هذا ما يدعو إِلى العجب، فالإِنسان كثيراً ما يخفي عنه نفسه الحقائق ويغطي على ضميره وفطرته لكي ينال شيئاً من الراحة الكاذبة.

إِنّ قضية مخادعة النفس وإِخفاء الحقائق عنها من القضايا التي تعالجها البحوث الخاصّة بنشاط الضمير، فقد نجد الكثيرين من الذين يتبعون أهواءهم يتنبهون إِلى أضرار ذلك عليهم، ولكنّهم لكي يواصلوا أعمالهم تلك بغير أن تنغصها عليهم ضمائرهم - يحاولون إِخفاء هذا الوعي فيهم بشكل من الأشكال.

غير أنّ بعض المفسّرين - دون الإِلتفات إِلى هذه النكتة - فهموا من (لهم) ما ينطبق على الأعمال التي أخفاها المشركون عن الناس (تأمل بدقّة).

2 - قد يقال أنّ التمني ليس من الأُمور يصح فيها أن تكون صادقة أو كاذبة، فهي مثل "الإِنشاء" الذي لا يحتمل الصدق والكذب، إِلاّ أنّ هذا القول بعيد عن الصواب، وذلك لأنّ "الإِنشاء" كثيراً ما يصاحبه "الإِخبار" ممّا يحتمل الصدق والكذب، فقد يقول قائل أتمنى أن يعطيني الله مالا وفيراً فاعينك، هذا من باب التمني بالطبع، ولكن مفهومه هو أنّه إِذا أعطاني الله مالا وفيراً فاني سوف أُساعدك، وهذا مفهوم خبري يحتمل أن يكون صادقاً أو كاذباً، فإِذا كنت تعرف بخل المتمني وضيق نظرته فأنت تعرف أنّه كاذب حتى إِن أعطاه الله ما يشاء من المال (هذا الموضوع مشهور كثيراً في الجمل الإِنشائية).

3 - إِنّ سبب ذكر الآية أنّهم لو عادوا إِلى الدنيا لعادوا إِلى تكرار أعمالهم السابقة هو أن كثيراً من الناس عندما يشاهدون نتائج أعمالهم بأعينهم، أي حينما يصلون إِلى مرحلة الشهود، يستنكرون ما فعلوا ويندمون آنياً ويتمنون لو يتاح لهم أن يجبروا ما كسروا، إِلاّ أنّ هذه تمنيات عارضة تنشأ من مشاهدة نتائج الأعمال عياناً، وتعرض لكل إِنسان يشهد بأُم عينه ما ينتظره من عذاب وعقاب، ولكن ما أن تغيب تلك المشاهد عن نظره حتى يزول تأثيرها عنه، ويعود إِلى سابق عهده.

شأنهم في ذلك شأن عبدة الأصنام الذين دهمهم طوفان عظيم في البحر ورأوا أنفسهم على عتبة الهلاك، فنسوا كل شيء سوى الله، ولكن ما أن هدأت العاصفة ووصلوا إِلى ساحل الأمان حتى عاد كل شيء إِلى ما كان عليه (3).

4 - ينبغي الإِلتفات إِلى أنّ هذه الحالات تخص جمعاً من عبدة الأصنام الذين مرّت الإِشارة إِليهم في الآيات السابقة لا كلهم، لذلك كان لابدّ لرسول الله (ص) أن يواصل نصح الآخرين لإِيقاظهم وهدايتهم.


1- "لو" شرطية، وقد حذف الجواب لوضوحه.

2- ينبغي الإِنتباه إِلى نقطة مهمّة في الآية: في القراءة المشهورة التي بين أيدينا "نردّ" مرفوعة و"ولانكذب" و"نكون" منصوبتان، مع أنّ الظاهر يدل على أنّهما معطوفتان على "نردّ" وخير تعليل لذلك هو القول بأنّ "نردّ" جزء من التمني، و"ولا نكذب" جواب التمني، و"الواو" هنا بمنزلة "الفاء" ومعلوم أن جواب التمني إذا وقع بعد الفاء كان منصوباً، إن مفسرين كالفخر الرازي والمرحوم الطبرسي وأبي الفتوح الرازي أوردوا تعليلات أُخرى، ولكن الذي قلناه أوضح الوجوه، وعليه فهذه الآية تكون شبيهة بالآية (58) من سورة الزمر: (لو أنّ لي كرةً فأكون من المحسنين).

3- يونس، 22.