الآيات 20 - 23

﴿20 وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْكَذَّبَ بِأَيَـتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّـلِمُونَ21 وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثمّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوآ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ22 ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ23 انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾

التّفسير

أشدّ الظّلم:

تواصل هذه الآيات المنهج القرآني في مقارعة الشرك وعبادة الأصنام بشكل شامل، تقول الآية الاُولى بصراحة وبصورة استفهام إِستنكاري: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذّب بآياته) ؟

الجملة الأُولى - في الواقع - إِشارة إِلى إنكار التوحيد، والثّانية إِشارة إِلى إِنكار النّبوة... حقّاً لا ظلم أكبر من أن يتخذ المرء قطعة جماد لا قيمة لها، أو إِنساناً ضعيفاً مثله شريكاً لربّ لا تحدّه، حدود، وله الحكم على كل عالم الوجود، فهذا ظلم من جهات ثلاث: ظلم لذات الله بالقول بوجود شريك له، وظلم للشخص نفسه بالحط من قدره إِلى حد السجود والخضوع لقطعة حجر أو خشب، وظلم بحق المجتمع الذي يسبب له الشرك والتشتت والتفرق والإِبتعاد عن روح الوحدة والتوحد.

فلا شك إِذن في أنّ أي ظالم - وعلى الأخص أُولئك الذين لظلمهم جوانب متعددة - لا يمكن أن يرى السعادة والفلاح: (إِنّه لا يفلح الظالمون).

إِنّ لفظة "الشّرك" لم ترد صراحة في الآية، ولكن بأخذ الآيات السابقة واللاّحقة لها بنظر الاعتبار التي تدور حول الشرك، يتّضح أنّ القصد من كلمة "إفتراء" هو القول بوجود شريك لله سبحانه.

وممّا يلفت النظر أنّ القرآن يصف في خمسة عشر موضعاً بعض الناس بأنّهم من أظلم الناس في سياق الإِستفهام: "ومن أظلم..." أو "فمن أظلم..." وعلى الرغم من أنّ معظم تلك الآيات تتناول الشرك وعبادة الأصنام وإِنكار آيات الله، أي أنّها تدور حول التوحيد، فإنّ بعضاً آخر منها يدول حول أُمور أُخرى، مثل (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) (1).

وقول سبحانه (ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله) (2).

هنا يثار هذا السّؤال: كيف يمكن أن تكون كل طائفة من هؤلاء أظلم الناس، في حين أنّ صفة (الأظلم) لا يمكن أن تنطبق إِلاّ على طائفة واحدة منها؟

نقول في الجواب: كل هذه الحالات تستقي - في الحقيقة - من منبع واحد، وهو الشرك والكفر والعناد.

فمنع الناس من ذكر الله في المساجد والسعي في خرابها دليل على الكفر والشرك، وكتمان الشهادة أي كتمان الحقائق المؤدي إِلى حيرة الناس وضلالهم، هو معلم من معالم الشرك وإنكار وحدانية الله.

الآية التّالية تشير إِلى مصير المشركين يوم القيامة مبيّنة أنّهم باعتمادهم على مخلوقات ضعيفة كالأصنام، لا هم حققوا لأنفسهم الراحة في هذا العالم، ولا هم ضمنوا ذلك في الحياة الآخرة، فتقول الآية: (ويوم نحشرهم جميعاً ثمّ نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون)، أين هم; لماذا لا يأتون اليوم لإنقاذهم؟ لماذا لا يظهر أي حول ولا يبدون أية قوّة؟

ألم تكونوا تتوقعون منهم أن يعينوكم على حل مشكلاتكم؟ فلماذا - إِذن - لا نرى لهم أثراً؟

فيستولي على هؤلاء الرعب والخوف ويبهتون ولا يحيرون جواباً، سوى أن يقسموا بالله إنّهم لم يكونوا مشركين، ظناً منهم أنّهم هناك أيضاً قادرون على إِخفاء الحقائق: (ثمّ لم تكن فتنتهم إِلاّ قالوا والله ربّنا ما كنّا مشركين).

حول معنى "فتنة" ثمّة كلام بين المفسّرين، منهم من قال: إِنّها بمعنى الإِعتذار، وقال آخرون: إِنّها بمعنى الجواب: وقالوا أيضاً: إِنّها الشرك (3).

هنالك احتمال آخر في تفسيرهذه الآية، وهو القول بأنّ "الفتنة" من "الإِفتتان" أي الوله بالشيء، فيكون المعنى أن إِفتتانهم بالشرك وعبادة الأصنام، بشكل يغشى عقولهم وأفكارهم، قد أدى إِلى أن يدركوا يوم القيامة - يوم يزاح الستر - خطأهم الكبير، ويستقبحوا أعمالهم وينكروها تماماً.

يقول الراغب في "المفردات": أن أصل "الفتن" إِدخال الذهب النّار لتظهر جودته من رداءته، فقد يكون هذا المعنى ممّا تفسر به الآية المذكورة، أي أنّهم عندما تحيط بهم شدّة يوم القيامة يستيقظون ويقفون على خطأهم، فينكرون أعمالهم طلباً للنجاة.

الآية الثّالثة، ومن أجل أن يعتبر الناس بمصير هؤلاء الأفراد تقول: (اُنظر كيف كذبوا على أنفسهم).

وتنهار المساند التي اختاروا الإِستناد عليها وجعلوها شريكة لله، وخابوا في مسعاهم (وضل عنهم ما كانوا يفترون).

لابدّ هنا من ملاحظة النقاط التّالية:

1 - لا شك أنّ المقصود بعبارة "انظر" هو النظر بعين العقل، لا بالعين الباصرة إذا لايمكن أن ترى مشاهد يوم القيامة رأي العين في هذه الدنيا.

2 - وقوله سبحانه (وكذبوا على أنفسهم) إمّا أن يعني أنّهم خدعوا أنفسهم في الدنيا وخرجوا عن طريق الحقّ، وإمّا أن يراد منه يوم القيامة حيث يقسمون على أنّهم لم يكونوا مشركين، والحقيقة أنّهم بهذا يكذبون على أنفسهم، فقد كانوا مشركين فعلا.

3 - يبقى سؤال آخر، وهو أنّ الآية المذكورة تفيد أنّ المشركين ينكرون شركهم يوم القيامة مع أنّ ظروف يوم القيامة لا يمكن أن تسمح لأحد أن يجانب الصدق وهو يرى تلك الحقائق الحسية، كما لو كان أحد يريد أن يغطي على الشمس في رابعة النهار، ليقول كذباً: إنّ الدنيا ظلام، ثمّ إن هناك آيات أُخرى تفيد بأنّهم يوم القيامة يعترفون صراحة بشركهم ولا يخفون أمراً: (ولا يكتمون الله حديثاً) (4).

يمكن أن نذكر لهذا السؤال جوابين:

أوّلا: ليوم القيامة مراحل، ففي المراحل الأُولى يظن المشركون أنّهم بالكذب يستطيعون التملص من عذاب الله الأليم، لذلك يرجعون إِلى عادتهم القديمة في التوسل بالكذب، ولكن في المراحل التّالية يدركون أن لا مهرب لهم أبداً، فيعترفون بأعمالهم.

يبدو أنّ الأستار يوم القيامة ترفع - بالتدريج - عن عين الإِنسان، وفي البداية - عندما لا يكون المشركون قد درسوا ملفات أعمالهم جيداً بعد - يركنون إِلى الكذب، ولكن في المراحل التّالية حيث ترتفع فيها الأستار أكثر ويرون كل شيء حاضراً، لا يجدون مندوحة عن الإِعتراف تماماً، مثل المجرمين الذين ينكرون كل شيء في بداية التحقيق، حتى معرفتهم بأصدقائهم... ولكنّهم عندما يرون الأدلة المادية والمستندات الحيّة التي تفضح جريمتهم، يدركون أنّ الأمر من الوضوح بحيث لا يحتمل الإِنكار، فيعترفون ويدلون بإِفادة كاملة، وقد ورد هذا الجواب في حديث عن أميرالمؤمنين علي (ع) (5).

وثانياً: إِنّ الآية المذكورة تتحدث عمّن لا يرى نفسه مشركاً مثل المسيحيين الذين قالوا بالآلهة الثلاثة واعتقدوا أنّهم موحدون، أو مثل الذين يدّعون التوحيد، لكن أعمالهم ملوثة بالشرك، لأنّهم كانوا يعرضون عن تعاليم الأنبياء، ويعتمدون على غير الله وينكرون ولاية أولياء الله... هؤلاء يقسمون يوم القيامة على أنّهم كانوا موحدين، ولكنّهم سرعان ما يدركون أنّهم في الباطن كانوا مشركين، هذا الجواب أيضاً قد ورد في عدد من الرّوايات نقلا عن الإِمام علي (ع) والإِمام الصادق (ع) (6).

وكلا الجوابين مقبولان.


1- البقرة، 114.

2- البقرة، 140.

3- إِذا أخذناها على إنّها بمعنى الإِعتذار والجواب، فلا حاجة فيهما للتقدير، أمّا إِذا أخذت بمعنى الشرك، فينبغي أن نقدر كلمة "نتيجة" أي أنّ نتيجة شركهم كانت أن يقسموا إِنّهم لم يكونوا مشركين.

4- النساء، 42.

5- تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 708.

6- تفسير "نور الثقلين"، ج 1 ، ص 708.