الآيتان 11 - 12

﴿11 قُل لِّمَن مّا فِى السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ قُل لِّلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـمَةِ لاَ رَيْبِ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ12 وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾

التّفسير

يواصل القرآن مخاطبة المشركين، ففي الآيات السابقة دار الكلام حول التوحيد وعبادة الله الأحد وهنا يدور الحديث عن المعاد، وبالإِشارة إِلى مبدأ التوحيد يواصل القول عن المعاد بطريقة رائعة، هي طريقة السؤال والجواب، والسائل والمجيب كلاهما واحد، وهو من الأساليب الأدبية الجميلة.

يتكون الإِستدلال هنا على المعاد من مقدمتين:

أوّلا: يقول: (قل لمن ما في السموات والأرض).

ثمّ يقول مباشرة: أجب أنت بلسان فطرتهم وروحهم: (قل لله)، فبموجب هذه المقدمة يكون كل عالم الوجود ملكاً لله وبيده وتدبيره.

ثانياً: إِنّ الله هو وحده مصدر كل رحمة، وهو الذي أوجب على نفسه الرحمة، ويفيض بنعمه على الجميع: (كتب على نفسه الرحمة).

أيمكن لربٍّ هذا شأنه أن يقطع سلسلة حياة البشر نهائياً بالموت فيوقف التكامل واستمرار الحياة؟ أيتفق هذا مع مبدأ كون الله "فياضاً" و"ذا رحمة واسعة"؟ أيمكن أن يكون قاسياً على عباده بهذا الشكل، وهو مالكهم ومدبر شؤونهم، بحيث أنّهم بعد مدّة يفنون ويتبدلون إِلى لا شيء؟

طبعاً لا، إِذ أنّ رحمته الواسعة توجب عليه أن يسير بالكائنات - وخاصة البشر - في طريق التكامل، بمثل ما يجعل برحمته من البذرة الصغيرة الزهيدة شجرة ضخمة قوية، أو يحيلها إِلى شجيرة ورد جميلة، كما أنّه بفيض رحمته يبدل النطفة التافهة إِلى انسان كامل، هذه الرحمة نفسها توجب أن يرتدي الإِنسان - الذي عند امكانية الخلود - لباس حياة جديدة بعد موته في عالم أوسع، تدفعه يد الرحمة في سيره التكاملي الأبدي، لذلك يقول بعد هاتين المقدمتين: (ليجمعنّكم إِلى يوم القيامة لا ريب فيه).

إنّ الآية تبدأ بالإِستفهام التقريري الذي يراد به انتزاع الإِقرار من السامع، ولمّا كان هذا الأمر مسلماً به بالفطرة، كما كان المشركون يعترفون بأنّ مالك عالم الوجود ليس الأصنام، بل الله، فإنّ الجواب يرد مباشرة، وهذا أسلوب جميل في عرض مختلف المسائل.

في مواضع أُخرى من القرآن يستدل على المعاد بطرق أُخرى، بطريق قانون العدالة، وقانون التكامل، والحكمة الإِلهية، ولكن الإِستدلال بالرحمة إستدلال جديد جاءت به هذه الآية.

في نهاية الآية إِشارة إِلى مصير المشركين المعاندين وعاقبتهم، فهؤلاء الذين أضاعوا رأس مال وجودهم في سوق تجارة الحياة، لا يؤمنون بهذه الحقائق: (الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون).

ما أعجب هذا التعبير! فقد يخسر المرء أحياناً ثروته أو مركزه أو أي نوع آخر من أنواع رأس المال، ففي هذه الحالات يكون قد خسر شيئاً، ولكن هذا الشيء الذي خسره لا يكون جزءاً من وجوده، أي أنّه خارج وجوده، أمّا أعظم الخسائر التي هي في الواقع الخسارة الحقيقية، فهي عندما يخسر الإِنسان أصل وجوده.

إِنّ أعداء الحقيقة والمعاندين يخسرون تماماً رأس مال العمر ورأس مال الفكر والعقل والفطرة وجميع المواهب الروحية والجسمية التي كان ينبغي لهم أن يستخدموها في طريق الحقّ للوصول إِلى مرحلة التكامل، وعندئذ لا يبقي رأس المال ولا صاحبه.

لقد ورد هذا التعبير في عدد من آيات القرآن الكريم، وهي تعبيرات مرعبة عن المصير المؤلم الذي ينتظر منكري الحقيقة والمذنبين الملوثين.

سؤال:

قد يقال: إِنّ الحياة الأبدية تكون مصداقاً للرّحمة بالنسبة للمؤمنين فقط، أمّا لغيرهم فهي لا تعدو أن تكون شقاء وتعاسة.

الجواب:

لا شك أنّ الله هو الذي يوفر فرص الرحمة، فهو الذي خلق الإِنسان، ووهب له العقل، وأرسل له الأنبياء لقيادته وهدايته، ومنحه مختلف أنواع النعم، وفتح أمامه طريقاً للحياة الخالدة، فهذه كلّها ألوان من الرحمة.

والإِنسان في غضون مسيرته للوصول إِلى ثمرات هذه الرحمة إِذا انحرف عن طريق وحول هذه الرحمة إِلى عذاب وشقاء، فإنّ ذلك لا يخرجها عن كونها رحمة، بل الإِنسان هو الملوم على الإِنحراف عنها وتبديلها إِلى عذاب وألم.

الآية الثّانية تكمل في الواقع الآية السابقة، فالآية السابقة تشير إِلى أنّ الله مالك كلّ شيء يستوعبه ظرف "المكان": (قل لمن ما في السموات والأرض...) ؟

أمّا هذه الآية فتشير إِلى ملكية الله لما يستوعيه ظرف "الزمان" الوسيع، وتقول: (وله ما سكن في الليل والنهار).

في الواقع، عالم المادة هذا يتحدد بالزمان والمكان، فكل الكائنات التي تقع ضمن ظرف المكان والزمان - أي عالم المادة كله - ملك لله.

وليس الليل والنهار مختصين - طبعاً - بالمنظومة الشمسية، فإنّ لجميع كائنات السماوات والأرض ليلا ونهاراً، بعضها له نهار دائم بلا ليل، ولبعضها ليل بلا نهار، ففي الشمس - مثلا - نهار دائم، فهناك ضوء دائم بلا ظلام، وفي بعض الكواكب الخامدة، التي لا نور فيها ولا تجاور النجوم، ليل دائم سرمدي، وهذه كلّها مشمولة بالآية المذكورة.

لابدّ هنا أن نلاحظ أنّ "سكن" والسكونة تعني التوقف والإِستقرار في مكان ما، سواء أكان ذلك الموجود الساكن في حالة حركة أو سكون، نقول مثلا: فلان "ساكن" في المدينة الفلانية، أي أنّه مستقر هناك، مع أنّه يمكن أن يكون متحركاً في شوارعها.

كما يحتمل أن تقابل "السكون" في هذه الآية "الحركة"، ولمّا كان السكون والحركة من الحالات النسبية، فإنّ ذكر أحدهما يغنينا عن ذكر الآخر، وعليه يصبح معنى الآية هكذا: كل ما هو كائن في الليل والنهار وظرف الزمان ساكناً كان أم متحركاً، ملك لله.

وبهذا يمكن أن تكون الآية إِشارة إِلى أحد أدلة التوحيد، لأنّ "الحركة" و"السكون" حالتان عارضتان وحادثتان طبعاً، فلا يمكن أن تكونا قديمتين أزليتين، لأنّ الحركة تعني وجود الشيء في مكانين مختلفين خلال زمانين، والسكون يعني وجود الشيء في مكان واحد خلال زمانين، وعليه فإنّ الإِلتفات إِلى الحالة السابقة كامن في ذات الحركة والسكون.

ونحن نعلم أنّ الشيء إِذا كانت له حالة سابقة لا يمكن أن يكون أزلياً.

نستنتج من هذا الكلام أنّ الأجسام لا تخلو من الحركة والسكون، وأنّ ما لا يخلو من الحركة والسكون لا يمكن أن يكون أزلياً، وعليه فكل جسم حادث، وكل حادث لابدّ من محدث (خالق).

ولكن الله ليس جسماً، فلا حركة له ولا سكون، ولا زمان ولا مكان، ولذلك فهو أبدي أزلي.

وفي نهاية الآية، وبعد ذكر التوحيد، تشير الآية إِلى صفتين بارزتين في الله فتقول: (وهو السميع العليم)، أي أنّ إِتساع عالم الوجود، والكائنات في آفاق الزمان والمكان لا تحول أبداً دون أن يكون الله عليماً بأسرارها، بل إنّه يسمع نجواها، ويعلم حركة النملة الضعيفة على الصخرة الصمّاء في الليلة الظّلماء في أعماق واد سحيق صامت، وإنّه ليدرك حاجاتها وحاجات غيرها، ويعلم ما تفعل.