الآيات 7 - 9
﴿7 وَقَالُوا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِىَ الاَْمْرُ ثُمَّ لاَيُنظَرُونَ8 وَلَوْ جَعَلْنَـهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَـهُ رَجُلا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ9 وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُل مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ﴾
التّفسير
خلق المبررات:
من عوامل الكفر والإِنكار الأُخرى، روح التحجج والبحث عن المبررات، وعلى الرغم من أنّ لهذه الروح عوامل أُخرى، مثل التكبر والأنانية، ولكنّه ينقلب بالتدريج إِلى حالة نفسية سلبية، تصبح بدورها عاملا من عوامل عدم التسليم للحق.
ومن جملة الحجج التي احتج بها المشركون على رسول الله (ص) وأشار إِليها القرآن في كثير من آياته - ومنها هذه الآية - هي أنّهم كانوا يقولون: لماذا يقوم رسول الله (ص) وحده بهذا الأمر العظيم؟ لماذا لا يقوم معه بهذا الأمر أحد من غير جنس البشر، من جنس الملائكة؟ أيمكن لإِنسان من جنسنا أنّ يحمل بمفرده هذه
الرسالة على عاتقه؟ (وقالو لولا أنزل عليه ملك).
ولا مجال لهذا التحجج على نبوة رسول الله (ص) مع كل هذه الدلائل الواضحة والآيات البيّنات، ثمّ إنّ الملك ليس أقدر من الإِنسان ولا يملك قابلية لحمل رسالة أكثر من قابلية الانسان بل انّ قابلية الإِنسان أكثر بكثير.
يرد القرآن عليهم بجملتين في كل منهما برهان:
الاُولى: (ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثمّ لا ينظرون).
أي لو نزل ملك لمعاونة رسول الله (ص) لهلك الكافرون، وسبب ذلك ما مرّ في آيات سابقة، وهو أنّه إِذا اتخذت النبوة جانب الشهود والحس، أي إِذا تحول الغيب بنزول الملك إِلى شهود، بحيث يرى كل شيء عياناً، غدت المرحلة هي المرحلة النهائية في إِتمام الحجة، إِذ لا يكون ثمّة دليل أوضح منها، وعلى ذلك فإن العصيان في هذه الحالة يستوجب العقاب القاطع، ولكن الله للطفه ورحمته بعباده، ولكي يمنحهم فرصة التأمل والتفكير، لا يفعل ذلك إِلاّ في حالات خاصّة يكون فيها طالب الدليل على أتمّ استعداد، أو في حالات يستحق فيها طالب الدليل الهلاك، أي أنّه ارتكب ما يستوجب معه العقاب الإِلهي، في هذه الحالة يحقق له طلبه، ثمّ إِذا لم يستسلم صدر أمر هلاكه.
الثّانية: هي أنّ الرّسول الذي يبعثه الله لقيادة الناس وتربيتهم وليكون أُسوة لهم، لابدّ أن يكون من جنس الناس أنفسهم وعلى شاكلتهم من حيث الصفات والغرائز البشرية، أمّا الملك فلا يظهر لعيون البشر كما أنّه ليس بإمكانه أنّ يكون قدوة عملية لهم، لأنّه لا يدري شيئاً عن حاجاتهم والآمهم ولا عن غرائزهم ومتطلباتها، لذلك فإن قيادته لجنس يختلف عنه كل الإِختلاف لا يحقق الهدف.
لذلك فالقرآن في الجواب الثّاني يقول: لو شئنا أن يكون رسولنا ملكاً حسبما يريدون، لوجب أن يتصف هذا الملك بصفات الإِنسان وأن يظهر في هيئة إِنسان: (ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلا) (1).
يتّضح ممّا قلنا أنّ جملة (لجعلناه رجلا) لا تعني: أنّنا سنجعله على هيئة انسان، كما تصور بعض المفسّرين، بل تعني: أنّنا نجعله على هئية البشر في الصفات الظاهرية والباطنية، ثمّ يستنتج من ذلك أنّهم - في هذه الحالة أيضاً - كانوا سيعترضون الإِعتراض نفسه، وهو: لماذا أوكل الله مهمّة القيادة إِلى بشر وأخفى عنّا وجه الحقيقة: (وللبسنا عليهم ما يلبسون).
"اللبس" بمعنى خلط الأمر وجعله مشتبهاً بغيره خافياً، و"اللبس" بمعنى ارتداء اللباس، ومن الواضح أنّ الآية تقصد المعنى الأوّل، أي أنّنا لو أردنا أن نرسل ملكاً لوجب أن يكون في صورة الإِنسان وسلوكه، وفي هذه الحالة سيعتقدون أنّنا خلطنا الأمر على الناس وأوقعناهم في الإِشتباه، ولكانوا يشكلون علينا الإِشكالات السابقة، بمثل ما يوقعون الجهلة من الناس في الخطأ والإِشتباه ويلبسون وجه الحقيقة عنهم، وعليه فإنّ نسبة "اللبس" والإِخفاء إِلى الله إِنّما هي من وجهة نظرهم الخاصة.
وفي الختام يهون الأمر على رسوله ويقولون له: (ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤون).
هذه الآية في الواقع تسلية لرسول الله (ص) يطلب الله فيها منه أن لا تزعزعه الزعازع، ويهدد في الوقت نفسه المخالفين والمعاندين ويطلب منهم أن يتفكروا في عاقبة أمرهم المؤلمة (2).
1- الضمير "جعلناه" يمكن أن يعود على الرّسول، أو على من يرسل معه لإِعانته على تثبيت النبوة وعلى الإِحتمال الثّاني يكون إقتراحهم قد تحقق، وعلى الأوّل قد تحقق أكثر ممّا طلبوه.
2- "حاق" بمعنى أحاط به وحل به، و"ما كانوا به يستهزئون" أي ما كانوا يستهزئون به من تهديد وإنذار يسمعونه من أنبياء الله مثل إنذار نوح وقومه بوقوع الطوفان، فكان قومه من عبدة الأصنام يسخرون من ذلك. وعليه فلا ضرورة لتقدير كلمة "جزاء" كما يقول بعضهم، إذ يكون المعنى: العقوبات التي كانوا يستهزئون بها حلت بهم.