الآيتان 70 - 71
﴿لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَـقَ بَنِى إِسْرَءِيلَ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلا كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ70 وحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثمّ تَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثمّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ71﴾
التّفسير
في آيات سابقة من سورة البقرة، وفي أوائل هذه السورة أيضاً إِشارة إِلى عهد وميثاق أخذه الله تعالى على بني إِسرائيل وفي هذه الآية تذكير بهذا الميثاق: (لقد أخذنا ميثاق بني إِسرائيل وأرسلنا إِليهم رسلا).
يبدو أنّ هذا الميثاق هو الذي جاءت الإِشارة إِليه في الآية (93) من سورة البقرة، أي العمل بما أنزل الله!
ثمّ يضاف إِلى ذلك القول بأنّهم، فضلا عن كونهم لم يعملوا بذاك الميثاق، (كلّما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون).
هذه هي طرائق المنحرفين الأنانيين وسبلهم، فهم بدلا من إِتباع قادتهم، يصرون على أن يكون القادة هم التابعين ولاهوائهم، وإِلاّ فليس لهؤلاء الهداة والأنبياء حتى حق الحياة.
في هذه الآية جاء الفعل "كذبوا" بصيغة الماضي بينما جاء الفعل "يقتلون" بصيغة المضارع، ولعل السبب - بالإِضافة إِلى المحافظة على التناسب اللفظي في أواخر الآيات السابقة والتّالية وكلها بصيغة المضارع - هو كون الفعل المضارع يدل على الإِستمرار، والقصد من ذلك الإِشارة إِلى إِستمرار هذه الروح فيهم، وأن تكذيب الأنبياء وقتلهم لم يكن حدثاً عارضاً في حياتهم، بل كان طريقاً وإِتجاهاً لهم (1).
في الآية التّالية إِشارة إِلى غرورهم أمام كل ما اقترفوه من طغيان وجرائم: (وحسبوا أن لا تكون فتنة) أي ظنوا مع ذلك أن البلاء والجزاء لن ينزل بهم، واعتقدوا - كما صرحت الآيات الأُخرى - أنّهم من جنس أرقى، وأنّهم أبناء الله!!
وأخيراً إِستحال هذا الغرور الخطير والتكبر إِلى ما يشبه حجاباً غطى أعينهم وآذانهم: (فعموا وصمّوا) عن رؤية آيات الله وعن سماع كلمات الحقّ.
ولكنّهم عندما أصابتهم مظاهر من عقاب الله وشاهدوا نتائج أعمالهم المشؤومة، ندموا وتابوا بعد أن أدركوا أن وعد الله حق، وأنّهم ليسوا عنصراً متميزاً فائقاً.
وتقبل الله توبتهم: (ثمّ تاب الله عليهم).
إِلاّ أنّ حالة الندم والتوبة لم تلبث طويلا، فسرعان ما عاد الطغيان والتجبر وسحق الحقّ والعدالة، وعادت أغشية الغفلة الناتجة عن الإِنغماس في الإِثم تحجب أعينهم وآذانهم مرّة أُخرى (ثمّ عموا وصمّوا كثير منهم) فلم يعودوا يرون آيات أو يسمعوا كلمة الحقّ، وعمت الحالة الكثير منهم.
ولعل تقديم "عموا" على "وصمّوا" يعني أن عليهم أوّلا أن يبصروا آيات الله ومعجزات رسوله (ص)، ثمّ يستمعوا إِلى تعاليمه ويستوعبوها.
وورود عبارة (كثير منهم) بعد تكرار (عموا وصمّوا) جاء لتوضيح أنّ حالة الغفلة والجهل والعمى والصمم تجاه الحقائق لم تكن عامّة، بل كان بينهم بعض الأقلية من الصالحين، وفي هذا دليل على أن تنديد القرآن باليهود لا ينطوي على أي جانب عنصري أو طائفي، بل هو موجّه إِلى أعمالهم فحسب.
هل أن تكرار عبارة (عموا وصمّوا) ذو طابع عام تأكيدي، أم للإِشارة إِلى حادثتين مختلفتين؟
يرى بعض المفسّرين أنّ التكرار يشير إِلى واقعتين مختلفتين حدثتا لبني إِسرائيل، الاُولى: الغزو البابلي لهم، والثّانية: غزو الإِيرانيين والروم، والقرآن أشار إِليها بشكل عابر في بداية سورة بني إِسرائيل.
ولا يستبعد - أيضاً - أنّ بني إِسرائيل قد تعرضوا مرات عديدة لهذه الحالات فحينما يشاهدون نتائج أعمالهم الشريرة، كانوا يتوبون، ثمّ ينقضون توبتهم، وقد حدث هذا عدّة مرّات لا مرّتين فقط.
في نهاية الآية جملة قصيرة عميقة المعنى تقول: إنّ الله لا يغفل أبداً عن أعمالهم، إِذ أنّه يرى كل ما يعملون: (والله بصير بما يعملون).
1- في الواقع وكما جاء في تفسير "مجمع البيان" وفي غيره إِنّ عبارة، "فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون" في الأصل "كذبوا وقتلوا" و"يكذبون ويقتلون".