الآيات 278 - 281

﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَواْ إِن م مُّؤْمِنِينَ / فَإِن لَّم تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْب مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْل7ِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ / وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَة فَنَظِرةٌ إِلَى مَيْسَرَة وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كنتمْ تَعْلَمُون / وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْس مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون﴾

سبب النّزول

جاء في تفسير علي بن إبراهيم(1) أنّه بعد نزول آيات الربا جاء "خالد بن الوليد" إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وقال: كانت لأبي معاملات ربوية مع بني ثقيف، فمات ولم يتسلّم دَينه، وقد أوصاني أن أقبض بعض الفوائد التي لم تدفع بعد.

فهل يجوز لي ذلك؟ فنزلت الآيات المذكورة تنهي الناس عن ذلك نهياً شديداً.

وفي رواية أُخرى أنّه بعد نزول هذه الآية قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): "ألا كلّ ربا من ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العبّاس بن عبدالمطّلب"(2).

يتضح من هذا أنّ رسول الله (ص) في حملته لإلغاء الديون الربوية في الجاهلية قد بدأ بأقربائه أوّلاً.

وإذا كان بينهم أشخاص أثرياء مثل العبّاس ممّن كانوا مثل غيرهم يتعاطون الربا في الجاهلية، فقد ألغى رسول الله (ص) أوّلاًـ ربا هؤلاء.

وجاء في الروايات أن النبي (ص) بعد نزول هذه الآيات امر أمير مكّة بأنه لو استمر آل المغيرة الذين كانوا معروفين بالربا في عملهم فليقاتلهم(3).

التّفسير

في الآية الأُولى يخاطب الله المؤمنين ويأمرهم بالتقوى ثمّ يأمرهم أن يتنازعوا عمّا بقي لهم في ذمّة الناس من فوائد ربوية.

يلاحظ أنّ الآية بدأت بذكر الإيمان بالله واختتمت بذكره، ممّا يدلّ بوضوح على عدم انسجام الربا مع الإيمان بالله.

(فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله).

تتغيّر في هذه الآية لهجة السياق القرآني، فبعد أن كانت الآيات السابقة تنصح وتعظ، تهاجم هذه الآية المرابين بكلّ شدة، وتنذرهم بلهجة صارمة أنّهم إذا واصلوا عملهم الربوي ولم يستسلموا لأوامر الله في الحقّ والعدل واستمرّوا في امتصاص دماء الكادحين المحرومين فلا يسع رسول الله (ص) إلاَّ أن يتوسّل بالقوّة لاَيقافهم عند حدّهم وإخضاعهم للحق، وهذا بمثابة إعلان الحرب عليهم.

وهي الحرب التي تنطلق من قانون: (قاتلوا التي تبغي حتّى تفيء إلى أمر الله)(4).

لذلك عندما سمع الإمام الصادق (عليه السلام) أنّ مرابياً يتعاطى الربا بكلّ صراحة ويستهزيء بحرمته هدّده بالقتل.

ويستفاد من هذا الحديث أن حكم القتل إنّما هو لمنكر تحريم الربا.

(فاذنوا)من مادة "اذن" وكلما كانت متعدية بالأمر بالمعنى هو السماح وإذا تعدت بالياء فتعني العلم فعلى هذا يكون قوله (فاذنوا بحرب من الله)(5) يعني أعلموا أن الله ورسوله سيحاربوكم وهذا في الحقيقة بمثابة إعلان الحرب على هذه الفئة، فعلى هذا ليس من الصحيح ما ذهب إليه البعض في معنى هذه الآية بأنه "اسمحوا بإعلان الحرب من الله".

عن أبي بكير قال: بلغ أبا عبدالله الصادق (عليه السلام) عن رجل أنّه كان يأكل الربا ويسمّيه اللبا.

فقال: لئن أمكنني الله منه لأَضربنّ عنقه(6).

يتّضح من هذا أنّ هذا الحكم يخصّ الذين ينكرون تحريم الربا في الإسلام.

على كلّ حال يستفاد من هذه الآية أنّ للحكومة الإسلامية أن تتوسّل بالقوّة لمكافحة الربا(7).

(وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلِمون ولا تُظلَمون).

أمّا إذا تبتم ورجعتم عن غيّكم وتركتم تعاطي الربا فلكم أن تتسلّموا من الناس المدينين لكم رؤوس أموالكم فقط "بغير ربح".

وهذا قانون عادل تماماً، لأنّه يحول دون أن تظلموا الناس ودون أن يصيبكم ظلم.

إنّ تعبير (لا تَظلِمون ولا تُظلَمون) وإن كان قد جاء بشأن المرابين، ولكنّه في الحقيقة شعار إسلامي واسع وعميق، يعني أنّ المسلمين بقدر ما يجب عليهم تجنّب الظلم، يجب عليهم كذلك أن لا يستسلموا للظلم.

وفي الحقيقة لو قلّ الذين يتحمّلون الظلم لقلّ الظالمون أيضاً، ولو أنّ المسلمين أعدّوا العدّة الكافية للدفاع عن حقوقهم لما تمكّن أحد أن يعتدي على تلك الحقوق ويظلمهم.

فقبل أن نقول الظالم: لاتظلم، علينا أن نقول المظلوم: لا تستسلم للظلم.

(وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة)(8).

استكمالاً لبيان حقّ الدائن في الحصول على رأسماله "بدون ربح" تبيّن الآية هنا حقّاً من حقوق المدين إذا كان عاجزاً عن الدفع، ففضلاً عن عدم جواز الضغط عليه وفرض فائدة جديدة عليه كما كانت الحال في الجاهلية، فهو حقيق بأن يمهل مزيداً من الوقت لتسديد أصل الدَين عند القدرة والإستطاعة.

إنّ القوانين الإسلامية التي جاءت لتوضيح مفهوم هذه الآية تمنع الدائن من استيلاء على دار المدين وأمتعته الضرورية اللازمة لقاء دَينه، إنّما للدائن أن يأخذ الزائد على ذلك.

وهذا قانون صريح وإنساني يحمي حقوق الطبقات الفقيرة في المجتمع.

(وأن تصدّقوا خير لكم إن كنتم تعلمون) وهذه في الواقع خطوة أبعد من المسائل الحقوقية.

أي أنّها مسألة أخلاقية وإنسانية تكمل البحث الحقوقي المتقدّم.

تقول الآية للدائنين أن الأفضل من كلّ ما سبق بشأن المدين العاجز عن الدفع هو ان يخطو الدائن خطوة إنسانية كبيرة فيتنازل للمدين عمّا بقي له بذمتّه، فهذا خير عمل إنساني يقوم به، وكلّ من يدرك منافع هذا الأمر يؤمن بهذه الحقيقة.

من المألوف في القرآن أنّه بعد بيان تفاصيل الأحكام وجزئيّات الشريعة الإسلامية يطرح تذكيراً عامّاً شاملاً يؤكّد به ما سبق قوله، لكي تنفذ الأحكام السابقة نفوذاً جيّداً في العقل والنفس.

لذلك فإنّه في هذه الآية يذكّر الناس بيوم القيامة ويوم الحساب والجزاء، ويحذّرهم من اليوم الذي ينتظرهم حيث يوضع أمام كلّ امرىء جميع أعماله دون زيادة ولا نقصان، وكلّ ما حفظ في ملفّ عالم الوجود يسلّم إليه دفعة واحدة، عندئذ تهوله النتائج التي تنتظره.

ولكن ذلك حصيلة ما زرعه بنفسه وما ظلمه فيه أحد، إنّما هو نفسه ظلم نفسه (وهم لا يظلمون).

جدير بالذكر أنّ هذه الآية من الأدلّة الأُخرى على تجسّد أعمال الإنسان في العالم الآخر.

ومما يلفت النظر أنّ تفسير "الدرّ المنثور" ينقل بطرق عديدة أنّ هذه الآية هي آخر آية نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا يُستبعد هذا إذا أخذنا مضمونها بنظر الاعتبار.

وهذا لا يتناقض مع كون سورة البقرة ليست آخر سورة نزلت على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّ بعض الآيات كما نعلم كانت توضع في سورة سابقة عليها أو لاحقة لها، وذلك بأمر النبيّ (ص) نفسه.

أضرار الربا

1- الربا يخلّ بالتوازن الإقتصادي في المجتمع، ويؤدي إلى تراكم الثروة لدى فئة قليلة، لأنّ هذه الفئة هي وحدها التي تستفيد من الأرباح بينما لا يجني الآخرون سوى الخسائر والأضرار والضغوط.

الربا يشكّل اليوم أهم عوامل اتّساع الهوة المستمر بين الدول الغنية والدول الفقيرة، وما يعقب ذلك من حروب دموية طاحنة.

2- الربا لون من ألوان التبادل الإقتصادي غير السليم، يضعف العلائق العاطفية، ويغرس روح الحقد في القلوب، ذلك لأنّ الربا يقوم في الواقع على أساس أنّ المرابي لا ينظر إلاَّ إلى أرباحه، ولا يهمّه الضرر الذي يصيب المدّين.

هنا يبدأ المدين بالإعتقاد بأن ّالمرابي يتّخذ من أمواله وسيلة لتدمير حياة الآخرين.

3- صحيح أنّ دافع الربا يرضخ لعمله هذا نتيجة حاجة قد ألجأته إلى ذلك.

ولكنّه لن ينسى هذا الظلم أبداً، وقد يصل به الأمر إلى الإحساس بأصابع المرابي تشدّد من ضغطها على عنقه وتكاد تخنفه.

وفي هذه الحالة تبدأ كلّ جوارح المدين المسكين ترسل اللعنات على المرابي، ويتعطّش لشرب دمه.

إنّه يرى بأُمّ عينيه كيف أنّ حاصل شقاءه وتعبه وثمن حياته يدخل إلى جيب هذا المرابي، في مثل هذه الحالة الهائجة تُترتكب عشرات الجرائم المرعبة، فقد يقدم المدين على الإنتحار، وقد تدفعه حالته اليائسة إلى أن يقتل المرابي شرّ قتلة، وقد ينفجر الشعب المضطهد انفجاراً عامّاً في ثورة عارمة.

إنّ انفصام علائق التعاون بين الدول المرابية والدول التي تستقرض منها بالربا واضح للعيان أيضاً.

إنّ الدول التي تجد ثرواتها تصبّ في خزائن دولة أُخرى باسم الربا تنظر دون شكّ بعين البغض والحقد إلى الدولة المرابية، وفي الوقت الذي هي تستقرض منها لحاجتها الماسة فإنّها تتحيّن الفرصة للإعراب عن نقمتها وكرهها بشتّى الوسائل والطرق.

وهذا هو الذي يحدونا إلى القول بأنّ للربا أثراً أخلاقياً سيئاً جدّاً في نفسيّةالمدين ويثير في قلبه الكره والضغينة، ويفصم عرى التعاون الإجتماعي بينالأفراد والملل.

4- في الأحاديث الإسلامية إشارة إلى آثار الربا الأخلاقية السيئة وردت في جملة قصيرة ولكنها عميقة المعنى.

جاء في كتاب "وسائل الشيعة" عن علّة تحريم الربا عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: "إنّما حرّم الله عزّوجلّ الربا لكي لا يمتنع الناس عن اصطناع المعروف"(9).


1- تفسير القرطبي: ج 2 ص 169، هنا ذكر أربع تفاسير، وفي مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث وذكرت احتمالات عديدة اُخرى أيضاً.

2- تفسير علي بن إبراهيم: ج 1 ص 93.

3- مجمع البيان: ج 1 ص 392، والدر المنثور: ج 2 ص 109 مع تفاوت يسير.

4- الدر المنثور: ج 2 ص 108 - 107.

5- الحجرات: 9.

6و 3 - وسائل الشيعة: ج 12 ص 439 باب ثبوت القتل والكفر باستحلال الربا ح 1.

7- فسّر "فأذنوا" بـ "فاعلموا" غالباً من قبل المفسّرين أمثال: الطبري في مجمع البيان، أبو الفتوح الرازي، الفخر الرازي، الآلوسي في روح المعاني، العلاّمة الطباطبائي في الميزان... وغيرهم.

8- يحتمل أن تكون (كان) في الجملة أعلاه تامّة حيث لا تحتاج إلى خبر أو ناقصة ويكون التقدير "إن كان هناك ذو عسرة".

9- وسائل الشيعة: ج 12، أبواب الربا، الباب 1، ص 422.