الآيتان 219 - 220
﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَـافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الاَْيَـاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ / فِي الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتَـامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَآءَ اللهُ لاََعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾
سبب النّزول
قيل في سبب نزول الآية الاُولى أنّ جماعة سألوا رسول الله (ص) عن حكم الخمر الّذي يُذهب بالعقل، والميسر الّذي يُبدّل المال، فنزلت الآية.
وعن سبب نزول الآية الثانية فقد ورد في تفسير القمّي عن إمام الصادق (عليه السلام)وفي مجمع البيان عن ا بن عباس أنّه لمّا نزلت الآية (ولا تقربوا مال اليتيم إلاّ بالّتي هي أحسن)(1)والآية (إنّ الّذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنّما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً)(2)تخلّى الناس عن اليتامى، وعمد بعضهم على إخراج اليتيم من بيته، واُولئك الّذين احتفظوا بهم في بيوتهم عزلوا طعامهم عن طعام اليتيم، وجعلوا لا يجالسونهم على مائدة واحدة ولا يستفيدون ممّا بقي من طعامهم، بل يحتفظون به له لوجبات اُخرى، فإن فَسِد يلقونه، كلّ ذلك ليتخلّصوا من أكل مال اليتامى، واشتدّ ذلك على اليتامى وعلى من يرعاهم، فجاؤوا إلى رسول الله (ص) يخبرونه بذلك، فنزلت الآية.
التّفسير
الجواب على أربعة أسئلة:
الآية الاُولى تُجيب عن سؤالين حول الخمر والقمار (يسألونك عن الخمر والميسر).
(الخمر) في اللّغة بقول الرّاغب بمعنى الغطاء وكلّ ما يُخفي شيئاً وراءه هو (خمار) بالرّغم من أنّ الخِمار يُستعمل في الإصطلاح لغطاء الرّأس بالنسبة للمرأة.
وفي معجم مقاييس اللّغة ورد أنّ الأصل في كلمة (الخمر) هو الدلالة على التغطية والإختلاط الخفي وقيل للخمر خمر، لأنّه سبب السكر الّذي يغطي على عقل الإنسان ويسلبه قدرة التمييز بين الحسنة والقبيح.
أمّا في الإصطلاح الشرعي فيأتي (الخمر) بمعنى كلّ مايع مسكر، سواء اُخذ من العنب أو الزبيب أو التمر أو شيء آخر، بالرّغم من أنّ الوارد في اللّغة أسماء مختلفة لكلّ واحد من أنواع المشروبات الكحوليّة.
(الميسر) من مادّة (اليُسر) وإنّما سمّي بذلك لأنّ المُقامر يستهدف الحصول على ثروة بيُسر ودون عناء.
ثمّ تقول الآية في الجواب (قل فيهما إثم كبير ومنافع للنّاس وإثمهما أكبر من نفعهما).
ومع الإلتفات إلى أنّ المجتمع الجاهلي كان غارقاً في الخمر والقمار، ولذلك جاء الحكم بتحريمهما بشكل تدريجي وعلى مراحل، كما نرى من اللّين والمداراة والاُسلوب الهاديء في لحن الآية إنّما هو بسبب ما ذكرناه.
في هذه الآية وردت مقايسة بين منافع الخمر والميسر وأضرارهما وأثبتت أنّ ضررهما وإثمهما أكثر من المنافع، ولاشكّ أنّ هناك منافع ماديّة للخمر والقمار أحياناً يحصل عليها الفرد عن طريق بيع الخمر أو مزاولة القمار، أي تلك المنفعة الخياليّة الّتي تحصل من السكر وتخدير العقل والغفلة عن الهموم والغموم والأحزان، الإّ أنّ هذه المنافع ضئيلة جدّاً بالنسبة إلى الأضرار الأخلاقيّة والإجتماعيّة والصحيّة الكثيرة المترتّبة على هذين الفعلين.
وبناءً على ذلك، فكلّ إنسان عاقل لا يقدم على الإضرار بنفسه كثيراً من أجل نفع ضئيل.
(الإثم) كما ورد في معجم مقاييس اللّغة أنّه في الأصل بمعنى البُطىء والتأخّر، وبما أنّ الذنوب تُؤخّر الإنسان عن نيل الدّرجات والخيرات، ولذلك اُطلقت هذه الكلمة عليها، بل أنّه ورد في بعض الآيات القرآنية هذا المعنى بالذّات من كلمة الإثم مثل (وإذا قيل له اتّقِ الله أخذته العزّة بالإثم)(3) أي أنّ الغرور والمقامات الموهومة تؤخّره عن الوصول إلى التّقوى.
وعلى كلّ حال، فالمراد من الإثم هو كلّ عمل وشيء يُؤثّر تأثيراً سلبيّاً في روح وعقل الإنسان ويُعيقه عن الوصول إلى الكمالات والخيرات، فعلى هذا يكون وجود (الإثم الكبير) في الخمر والقمار دليل على التأثير السلبي لهما في وصول الإنسان إلى التقوى والكمالات المعنويّة والإنسانيّة الّتي سوف يأتي شرحها.
السؤال الثالث المذكور في الآية محلّ البحث هو السؤال عن الإنفاق فتقول الآية (ويسألونك ماذا يُنفقون قل العفو).
ورد في تفسير "الدّر المنثور" في شأن نزول هذه العبارة من الآية عن ابن عبّاس أنّ المسلمين سألوا الرسول (ص) عند نزول آيات الحثّ على الإنفاق: ماذا يُنفقون؟ أيُنفقون كلّ أموالهم أم بعضها؟ فنزلت الآية لتأمر برعاية (العفو)(4).
ولكن ما المراد من "العفو" في الآية؟
(العفو) في الأصل- كما يقول الرّاغب في المفردات- بمعنى القصد إلى أخذ شيء، أو بمعنى الشيء الّذي يُؤخذ بسهولة، وبما أنّ هذا المعنى واسع جدّاً ويُطلق على مصاديق مختلفة منها: المغفرة والصفح وإزالة الأثر.
الحد الوسط بين شيئين.
المقدار الإضافي لشيء.
وأفضل جزء من الثروة.
فالظاهر أنّ المعنى الأوّل والثاني لا يتناسب مع مفهوم الآية، والمراد هو أحد المعاني الثلاثة المتأخّرة، يعني رعاية الحد الوسط في الإنفاق، أو إنفاق المقدار الزائد عن الحاجة، أو إنفاق القسم الجيّد للأموال وعدم بذل الحصّة الرخيصة والعديمة النفع من المال.
وهذا المعنى وارد أيضاً في الروايات الإسلاميّة في تفسير هذه الآية، وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: العفو الوسط(5) (أي أنّ المراد من العفو في الآية أعلاه هو الحد الوسط).
وورد في تفسير علي بن إبراهيم (لا إقتار ولا إسراف)(6).
وفي مجمع البيان عن الإمام الباقر (عليه السلام) (العفو ما فضل عن قوت السّنة)(7).
ويُحتمل أيضاً أن يكون العفو في الآية (وإن لم أجده في كلمات المفسّرين) هو المعنى الأوّل، أي الصفح عن أخطاء الآخرين، وبذلك يكون معنى الآية الكريمة: أنفقوا الصفح والمغفرة فهو أفضل الإنفاق.
ولايبعد هذا الإحتمال لو أخذنا بنظر الإعتبار أوضاع شبه جزيرة العربيّة عامّة وخاصّة مكّة والمدينة محل نزول القرآن من حيث هيمنة روح التنافر والعداء والحقد بين الناس، وخاصّة أنّ رسول الله (ص) هو النموذج الكامل لهذا المعنى، كما أعلن العفو العامّ عن مشركي مكّة الّذين هم أشدّ الناس عداوة للإسلام والمسلمين، والجواب بهذا المعنى لا يتنافى مع سؤالهم بشأن الإنفاق المالي، لأنّهم قد يسألون عن موضوع كان ينبغي أن يسألوا عن أهم منه، والقرآن يستثمر فرصة سؤالهم المعبّر عن استعدادهم للسّماع والقبول ليجيبهم بما هو أهم وألزم، وهذا من شؤون الفصاحة والبلاغة حيث يترك سؤالهم ليتناول موضوعاً أهم.
ولايوجد تعارض بين هذه التفاسير، فيمكن أن تكون مرادة بأجمعها من مفهوم الآية.
وأخيراً يقول تعالى في ختام الآية: (كذلك يُبيّن الله لكم الآيات لعلّكم تتفكّرون).
ويذكر بدون فصل في الآية التالية المحور الأصليللتفكّر ويقول (في الدنيا والآخرة).
أجل، يجب أن تكون جميع نشاطات الإنسان الماديّة والمعنوية في الحياة مشفوعة بالفكر والتدبّر، ويتّضح من هذه العبارة أمران:
الأوّل: إنّ الإنسان إضافة إلى وجوب التسليم أمام أوامر الله يجب أن يُطيع هذه الأوامر عن تفكّر وتعقّل لا عن اتّباع أعمى، وبعبارة اُخرى على الإنسان المؤمن أن يعي أسرار الأحكام وروحها ليس فقط في مجال تحريم الخمر والقمار، بل في جميع المجالات ولو إجمالاً.
ولايعني هذا الكلام أنّ إطاعة الأحكام الإلهيّة مشروطة بإدراك فلسفتها وحكمتها، بل المراد أنّ الإنسان يجب عليه بموازاة الطّاعة العمليّة أن يسعى إلى فهم أسرار وروح الأحكام الإلهيّة.
الثاني: أنّ على الإنسان أن لا يحصر تفكيره في عالم المادّة وحده أو عالم المعنى وحده، بل عليه أن يفكّر في الإثنين معاً، لأنّ الدنيا والآخرة مرتبطتان وكلّ خلل في أحدهما يخلُّ بالآخر، وأساساً لا يُمكن أن يؤدي أحدهما إلى رسم صورة صحيحة عن الواقعيّات في هذا العالم، لأنّ كلاًّ منهما هو قسم من هذا العالم، فالدنيا هي القسم الأصغر والآخرة القسم الأعظم، فمن حصر فكره في أحدهما فإنّه لا يمتلك تفكيراً سليماً عن العالم.
ثمّ تذكر الآية السؤال الرابع وجوابه وتقول: (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم)(8).
وعلى هذا الأساس فالقرآن يوصي المسلمين بعدم إهمال اليتامى، فإنّ الإعراض عن تحمّل مسؤوليتهم وتركهم وشأنهم أمرٌ مذموم، فالأفضل أن يتقبّلوا المسؤوليّة ويُصلحوا أمر اليتامى وإن اختلطت معيشتهم بمعيشتكم فعاملوهم معاملة الأخ لأخيه، فلا حرج في الاختلاط الأموال إذا كان الدافع هو الإصلاح.
ثمّ تضيف الآية (والله يعلم المفسد من المصلح) أجل، إنّ الله مطلّع على نيّاتكم ويعلم من يقصد السوء بالاستفادة من أموال اليتامى ليحيف عليهم ومن هو مخلص لهم.
والفقرة الأخيرة من الآية تؤكّد بأنّ الله تعالى قادر على أن يُضيّق ويشدّد عليكم برعاية اليتامى مع فصل أموالهم عن أموالكم، لكنّ الله لا يفعل ذلك أبداً، لأنّه عزيز وحكيم، ولا داعي لأن يُضيّق على عباده (ولو شاء الله لاََعْنَتكم إنّ الله عزيز حكيم)(9).
بحوث
1- الترابط ببين الأحكام الأربعة
رأينا أنّ الآيتين أعلاه ذكرتا أربعة مسائل عن الخمر والقمار والانفاق والأيتام مع أجوبتها، ويمكن أن يكون ذكر هذه الأسئلة والأجوبة الأربعة مع بعضها لأنّ الناس كانوا مبتلين بهذه المسائل واقعاً، ولذلك كانوا يسألون الرّسول(ص) هذه الأسئلة تباعاً (مع الإلتفات إلى أنّ يسألونك فعل مضارع ويدلّ على الإستمرار).
ويُحتمل أنّ هذه المسائل ترتبط مع بعضها بإشتراكها في الاُمور الماليّة فالخمر والقمار هما سببٌ لتلف الأموال والإنفاق على العكس من ذلك سببٌ لنماء الأموال، وأمّا مسؤوليّة اليتامى فيمكن أن تكون مفيدة أو مخرّبة.
والآخر أنّ: الإنفاق له جنبة عموميّة شاملة وجنبة اُخرويّة، والخمر والقمار لهما طابع شخصي ومادّي مخرّب وإصلاح أمر اليتامى له جنبتين عموميّة وخصوصيّة، وبهذا الترتيب يكون مصداق للتفكّر في الدنيا والآخرة، ومن هنا يتّضح الإرتباط الوثيق بين الخمر والقمار، لأنّ كلاًّ منهما يؤدّي إلى تلف الأموال وفساد المجتمع وانتشار الأمراض البدنيّة والروحيّة.
2- أضرار المشروبات الكحولية
ألف: أثر الكحول في العمر
ذكر أحد علماء الغرب المشهورين أنه لو كان عدد الوفيات بين الشباب المدمنين البالغة أعمارهم بين 21 إلى 23 سنة يصل إلى 51 شابّاً، فإنّ عدد الوفيات من غير المدمنين في تلك الأعمار لا يبلغ 10 أشخاص.
وقال عالم مشهور آخر: الشباب في سنّ العشرين الذين يتوقّع أن تطول
أعمارهم إلى خمسين عاماً، لا يعمّرون بسبب معاقرة الخمرة أكثر من خمسة وثلاثين عاماً.
التجارب التي أجرتها شركات التأمين على الحياة أثبتت أنّ أعمار المدمنين على الكحول أقلّ من أعمار غيرهم بنسبة 25- 30 بالمائة.
وتذكر إحصائيات أُخرى أنّ معدّل أعمار المدمنين على الكحول يبلغ حوالي 35- 50 سنة، بينما معدّل العمر الإعتيادي مع رعاية القواعد الصحية يبلغ ستين عاماً فصاعداً.
ب: أثر الكحول على النسل
35 بالمائة من عوارض الإدمان الحادّة تنتقل إلى الوليد إذا كان أبوه- حين انعقاد النطفة- سكراناً، وإن كان الوالدان سكرانين فترتفع نسبة هذه العوارض إلى مائة في المائة.
وهذه إحصائيات تبيّن آثار الإدمان على الجنين:
الأطفال الذين ولدوا قبل موعد ولادتهم الطبيعي: من أبوين مدمنين 45 بالمائة.
ومن أُمّ مدمنة 31 بالمائة.
ومن أب مدمن 17 بالمائة.
الأطفال الذين ولدوا وهم لا يحملون مقوّمات استمرار الحياة: من أب مدمن 6 بالمائة، ومن أمّ مدمنة 45 بالمائة.
الأطفال الذين لا يتمتّعون بطول طبيعي: من والدين مدمنين 75 بالمائة، ومن أمّ مدمنة 45 بالمائة.
وأخيراً الأطفال الذين يفتقدون القوّة العقلية والروحية الكافية: من أُمّهات مدمنات 75 بالمائة، ومن آباء مدنين 75 بالمائة أيضاً.
ج: أثر الكحول في الأخلاق
العاطفة العائلية في الشخص المدمن تضعف، ويقلّ انشداده بزوجته وأبنائه، حتّى يحدث أن يقدم المدمن على قتل أبنائه بيده.
د: أضرار الكحول الإجتماعية
حسب الإحصائيّة التي نشرها معهد الطب القانوني في مدينة (نيون) عام 1961، كانت الجرائم الإجتماعية للمدمنين على النحو التالي:
القتلة: 50 بالمائة، المعتدون بالضرب والجرح بين المدمنين: 8,77 بالمائة، السرقات بين المدمنين: 5,88 بالمائة، الجرائم الجنسية المرتبطة بالمدمنين: 8,88 بالمائة.
هذه الإحصائيات تشير إلى أنّ الأكثرية الساحقة من الجرائم ترتكب في حالة السكر.
هـ: الأضرار الإقتصادية للمشروبات الكحوليّة
أحد علماء النفس المشهورين يقول: من المؤسف أنّ الحكومات تحسب ما تدر عليها المشروبات الكحولية من ضرائب، ولا تحسب الميزانية الضخمة التي تنفق لترميم مفاسد هذه المشروبات.
فلو حسبت الحكومات الأضرار الناتجة من المشروبات الكحولية، مثل زيادة الأمراض الروحية، وإهدار الوقت والإصطدامات الناتجة عن السكر، وفساد الجيل، وانتشار روح التقاعس والتحلّل، والتخلّف الثقافي، والمشاكل التي تواجه رجال الشرطة ودور الحضانة المخصّصة لرعاية أبناء المخمورين، وما تحتاجه جرائم المخمورين من مستشفيات وأجهزة قضائيّة وسجون، وغيرها من الخسائر والأضرار الناتجة عن تعاطي الخمور، وقارنت هذه الخسائر بما تحصل عليه من ضرائب على هذه المشروبات لوجدت أنّ الأرباح تكاد تكون تافهة أمام الخسائر، هذا إضافة إلى أنّ الخسائر المؤسفة الناتجة عن المشروبات الكحولية لا يمكن حسابها بالدولار، لأنّ موت الأعزّاء وتشتّت العوائل وتبدّد الآمال وفقدان الأدمغة المفكّرة لا يمكن حسابه بالمال.
أضرار المشروبات الكحولية فظيعة للغاية، حتّى أنّ أحد العلماء قال: لو أنّ الحكومة ضمنت لي غلق حانات الخمور لضمنت لها غلق نصف المستشفيات ودور المجانين.
ممّا تقدّم يتّضح بجلاء معنى الآية الكريمة بشأن الخمر، فلو كان في الخمرة فائدة تجارية، ولو كان السكران يحسب لحظات غفلته عن عمومه أثناء السكر فائدة له، فإنّ الأضرار التي تترتب عليها أكثر بكثير وأوسع دائرة وأبعد مدىً من فوائدها، حتّى لا يمكن المقارنة بين الاثنين.
3- آثار القمار المشؤومة
أضرار القمار لا تخفى على أحد، ولمزيد من التوضيح نذكر باختصار جانباً من المآسي المترتّبة على هذه الظاهرة الخطرة:
الف: القمار أكبر عوامل الهياج والانفعال
يجمع علماء النفس على أنّ الهياج النفسي هو العامل الأساسي في كثير من الأمراض، مثل: نقص الفيتامينات، وقرحة المعدة، والجنون، والأمراض العصبية والنفسية الخفيفة والحادّة.
والقمار أكبر عامل على إثارة الهياج، حتّى أنّ عالماً أمريكياً يقول: في أمريكا يموت ألفا شخص سنوياً نتيجة هياج القمار، وقلب لاعب البوكر "نوع من القمار" تزيد عدد ضرباته على مائة ضربة في الدقيقة، وقد يؤدّي القمار إلى سكتة قلبيّة ودماغيّة أيضاً، ومن المؤكّد أنّه يدفع إلى شيخوخة مبكّرة.
إضافة إلى ما سبق فإنّ المقامر- كما يقول العلماء- يصاب بتوتّر روحي، بل أنّ جميع أجهزة جسمه تصاب بحالة استثنائيّة، كأن يزداد ضربان القلب وتزداد نسبة السكّر في الدم، ويختلّ ترشّح الغدد الداخلية، ويشحب لون الوجه، وتقلّ الشهية، ويمرّ المقامر بعد اللعب بفترة حرب أعصاب وحالة أزمة نفسية، وقد يلجأ إلى الخمور والمخدّرات لتهدئة أعصابه، فيزيد في الطين بلّة وتتضاعف بذلك أضرار القمار.
ويقول عالم آخر: المقامر إنسان مريض يحتاج إلى إشراف نفسي مستمر، ويجب تفهيمه بأنّ الفراغ الروحي هو الذي يدفعه لهذا العمل الشنيع، كي يتّجه لمعالجة نفسه.
ب: علاقة القمار بالجرائم
إحدى مؤسسات الإحصاء الكبرى ذكرت: أنّ 30 بالمائة من الجرائم ناتجة مباشرة عن القمار، و 70 بالمائة من الجرائم ناتجة بشكل غير مباشر عن القمار أيضاً.
ج: الأضرار الإقتصادية للقمار
الملايين بل المليارات من ثروات الأفراد تبدّد سنوياً على هذا الطريق، إضافة إلى المقدار الهائل من الوقت ومن الطاقات الإنسانية.
وجاء في أحد التقارير: في مدينة "مونت كارلو" حيث توجد أكبر دور القمار في العالم، خسر شخص خلال مدّة 19 ساعة من اللعب المستمر أربعة ملايين دولار، وحين أُغلقت دار القمار اتّجه مباشرة إلى الغابة، وانتحر بإطلاق رصاصة على رأسه، ويضيف التقرير: أنّ غابات "مونت كارلو" تشهد باستمرار انتحار مثل هؤلاء الخاسرين.
د: الأضرار الإجتماعية للقمار
القمار يصدّ أصحابه عن التفكير بالعمل الجادّ الإنتاجي المثمر في الحقل الإقتصادي، ويشدّهم دائماً إلى أمل الحصول على ثروة طائلة بدون عناء عن طريق القمار، وهذا يؤدّي إلى إهدار الطاقات الإنتاجية لهؤلاء المقامرين وبالتالي إلى ضعف الإنتاج على قدر نسبتهم.
المقامرون وعوائلهم يعيشون عادة حياة طفيلية في الجانب الإقتصادي ولا ينتجون، بل يجنون ثمار الآخرين، وقد يضطرّون في حالات الإفلاس إلى السرقة.
أضرار القمار فادحة إلى درجة دفعت حتّى ببعض البلدان غير الإسلامية إلى اعلان منعه، كما حدث في بريطانيا عام 1853، وأمريكا عام 1855، والإتحاد السوفيتي عام 1854، والمانيا عام 1873.
ولابأس أن نشير في الخاتمة إلى إحصائية أجراها بعض المحقّقين تذكر أنّ القمار وراء 90 بالمائة من السرقات، و 10 بالمائة من المفاسد الخلقية، و40 بالمائة من الإعتداءات بالضرب والجرح، و15 بالمائة من الجرائم الجنسية، و 30 بالمائة من الطلاق، و 5 بالمائة من عمليات الإنتحار.
لو أردنا أن نعرّف القمار تعريفاً شاملاً علينا أن نقول: إنّه إهدار للمال والشرف، للحصول على أموال الآخرين بالخدعة والتزْوير، وللترويج عن النفس أحياناً، ثمّ عدم الحصول على كلا الهدفين.
استعرضنا الأضرار الفادحة المترتّبة على "الخمر والميسر"، وتلزم الإشارة إلى مسألة أُخرى في هذا المجال وهي سبب إشارة الآية الكريمة إلى منافع الخمر والميسر، عندما تعرّضت إلى ذمّهما، بينما نعلم أن منافعهما تافهة بالنسبة إلى أضرارهما.
قد يكون السبب هو أنّ سوق الخمرة والقمار كانت رائجة في الجاهلية مثل عصرنا هذا، ولو لم تشر الآية إلى مسألة المنافع لظنّ ذووا الاُفق الفكري الضيّق أنّ القرآن تناول المسألة من جانب واحد.
أضف إلى ما سبق أن أفكار الإنسان تدور عادةً حول محور المنفعة والضرر، وتجب الإستفادة من هذا المنطق لإنقاذ الفرد من المفاسد الأخلاقية الكبرى.
والآية تجيب ضمنياً على بعض أقوال الأطباء بشأن إمكان الإستفادة من المشروبات الكحولية لمعالجة قسم من الأمراض، وتؤكّد أنّ الأضرار المترتّبة عليها أكبر بكثير من نفعها، أي إذا كان لها أثر إيجابي على الشفاء من مرض معيّن، فإنّها منشأ لأمراض خطرة اُخرى، وقد تكون هذه الحقيقة هي التي تشير إليها الروايات القائلة: إن الله لم يجعل الشفاء في الخمر.
4- الإعتدال في مسألة الإنفاق
بالرغم من أنّ الإنفاق من أهم المسائل أكّد عليها الإسلام والقرآن الكريم إلاّ أنّه لم يتركها بدون حساب لتؤدّي إلى الإفراط الشديد بحيث تشلّ حياة الإنسان، فالآية محل البحث ناظرةٌ إلى هذا المعنى كما ذهب إليه بعض المفسّرون، ويمكن أن تكون إشارة إلى أنّ بعض الأشخاص يتذرّعون بإحتياجاتهم الشخصيّة للتخلّص من هذا الحكم الإسلامي المهم، فالقرآن الكريم يقول: أنّكم تتمتّعون في الحياة بالكثير من الاُمور الزّائدة عن الحاجة فعليكم بإنتخاب مقدار منها وإنفاقه.
5- التفكّر في كلّ شيء
جملة (لعلّكم تتفكّرون في الدنيا والآخرة) عبارة عن درس مهم للمسلمين في أنّهم لايخوضون في جميع اُمورهم الماديّة والمعنويّة بدون تفكّر وتدبّر حتّى تبين الآيات الإلهيّة إلى النّاس لبعث روح التفكّر والتدبّر فيهم، فما أسوأ حال الأشخاص الّذين لا يتفكّرون في اُمورهم وأعمالهم الدينيّة ولا في أعمالهم الدنيويّة.
1- تجريد العقائد: ص 327.
2- الاسراء: 34.
3- النساء: 10.
4- البقرة: 206.
5- الدر المنثور: ج 1 ص 253.
6و 3 - نور الثقلين: ج 1 ص 210.
7- مجمع البيان: ج 1 ص 316.
8- جملة شرطية، فيها محذوف وتقديره "لابأس به" أو "فلكم ذلك".
9- "اعنتكم" من مادة "عنت" وفي الأصل بمعنى الوقوع في أمر مخوف، وعلى قول مقاييس اللغة أنه يعني كلّ أمر شاق. وعبارة "فاخوانكم" بمثابة الدليل على ذلك.