الآيات 190 - 193

﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إنَّ اللهَ لاَيُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ / وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ / فَإنِ انتَهُوْاْ فَإنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ / وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكوُنَّ الدِّينُ للهِ فَإنِ انتَهَوْاْ فَلاَ عُدْوَانَ إلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾

سبب النّزول

ذكر بعض المفسرين سببين لنزول الآية الاُولى من هذه الآيات محل البحث:

الأوّل: إنّ هذه الآية هي أوّل آية نزلت في جهاد أعداء الإسلامِ وبعد نزول هذه الآية شرع رسول الله (ص) في قتالهم إلاّ الكفّار الّذين لم يكونوا في حرب مع المسلمين، واستمرّ هذا الحال حتّى نزل الأمر (اقتلوا المشركين) الّذي أجاز جهاد وقتال جميع المشركين(1).

الثاني: من أسباب النزول ما ورد عن ابن عباس أنّ هذه الآية نزلت في صلح الحديبيّة، وذلك أنّ رسول الله (ص) لمّا خرج هو وأصحابه في العام الذي أرادوا فيه العمرة، وكانوا ألفاً وأربعمائة، فساروا حتّى نزلوا الحديبيّة فصدّهم المشركون عن البيت الحرام، فنحروا الهدي بالحديبيّة، ثمَّ صالحهم المشركون على أن يرجع النبي من عامه ويعود العام المقبل، ويخلوا له مكّة ثلاثة أيّام، فيطوف بالبيت ويفعل ما يشاء، فرجع إلى المدينة من فوره.

فلمّا كان العام المقبل تجهّز النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك وأن يصدّوهم عن البيت الحرام ويقاتلوهم، وكره رسول الله قتالهم في الشهر الحرام في الحرم، فأنزل الله هذه الآية لتبيح للمسلمين القتال إن بدأهم المشركون به(2).

والظاهر أن شأن النزول الأوّل يناسب الآية الاُولى، والثاني يناسب الآيات التالية،وعلى أية حال فإن مفهوم الآيات يدلّ على أنهانزلت جميعاً بفاصلة قصيرة.

التّفسير

القرآن أمر في هذه الآية الكريمة بمقاتلة الذين يشهرون السلاح بوجه المسلمين، وأجازهم أن يواجهوا السلاح بالسلاح، بعد أن انتهت مرحلة صبر المسلمين على الأذى، وحلّت مرحلة الدفاع الدامي عن الحقوق المشروعة.

تقول الآية: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم).

عبارة (فِي سَبِيلِ الله) توضّح الهدف الأساسي من الحرب في المفهوم الإسلامي، فالحرب ليست للإنتقام ولا للعلوّ في الأرض والتزعم، ولا للاستيلاء على الأراضي، ولا للحصول على الغنائم... فهذا كلّه مرفوض في نظر الإسلام.

حمل السلاح إنّما يصحّ حينما يكون في سبيل الله وفي سبيل نشر أحكام الله، أي نشر الحقّ والعدالة والتوحيد واقتلاع جذور الظلم والفساد والانحراف.

وهذه هي الميزة التي تميّز الحروب الإسلامية عن ساير الحروب في العالم، وهذا الهدف المقدّس يضع بصماته على جميع أبعاد الحرب في الإسلام ويصبغ كيفيّة الحرب وكميّتها ونوع السلاح والتعامل مع الاسرى وأمثال ذلك بصبغة "في سبيل الله".

"سبيل" كما يقول الراغب في مفرداته أنها في الأصل تعني الطريق السهل، ويرى بعض أنه ينحصر في طريق الحقّ.

ولكن مع الالتفات إلى أن هذه المفردة جاءت في القرآن الكريم تارة بمعنى طريق الحقّ، واُخرى طريق الباطل، فإن مرادهم قد يكون إطلاقها على طريق الحقّ مع القرائن.

ولا شكّ أن سلوك طريق الحقّ "سبيل الله" أي طريق الدين الإلهي مع احتوائه على مشاكل ومصاعب كثيرة إلاّ أنه سهل يسير لتوافقه مع الفطرة والروح الإنسانية للاشخاص المؤمنين، ولهذا السبب نجد المؤمنين يستقبلون تلك الصعوبات برحابة صدر حتّى لو ادّى بهم إلى القتل والشهادة.

وعبارة (الذين يقاتلونكم) تدلّ بصراحة أن هذا الحكم الشرعي يختّص بمن شهروا السلاح ضد المسلمين، فلا تجوز مقاتلة العدو ما لم يشهر سيفاً ولم يبدأ بقتال باستثناء موارد خاصّة سيأتي ذكرها في آيات الجهاد.

وذهب جمع من المفسرين إلى أن مفهوم (الذين يقاتلونكم) محدود بدائرة خاصّة، في حين أن مفهوم الآية عام وواسع.

ويشمل جميع الذين يقاتلون المسلمين بنحو من الإنحاء.

ويستفاد من الآية أيضاً أن المدنيين- خاصّةً النساء والأطفال- لا يجوز أن يتعرّضوا لهجوم، فهم مصونون لأنّهم لا يقاتلون ولا يحملون السلاح.

ثمّ توصي الآية الشريفة بضرورة رعاية العدالة حتّى في ميدان القتال وفي مقابل الأعداء، وتقول: (ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين).

أجل، فالحرب في الإسلام لله وفي سبيل الله، ولا يجوز أن يكون في سبيل الله اعتداء ولا عدوان.

لذلك يوصي الإسلام برعاية كثير من الأُصول الخلقية في الحرب، وهو ما تفتقر إليه حروب عصرنا أشدّ الإفتقار.

يوصي مثلاً بعدم الإعتداء على المستسلمين وعلى من فقدوا القدرة على الحرب، أوليست لديهم أصلاً قدرة على الحرب كالشيوخ والنساء والأطفال، وهكذا يجب عدم التعرّض للمزارع والبساتين، وعدم اللجوء إلى المواد السامة لتسميم مياه شرب العدوّ كالسائد اليوم في الحروب الكيمياوية والجرثوميّة.

الإمام عليّ (عليه السلام) يقول لافراد جيشه- كما ورد في نهج البلاغة- وذلك قبل شروع القتال في صفين:

"لا تقاتلوهم حتّى يبدؤوكم فإنكم بجهد الله على حجّة، وترككم إيّاهم حتّى يبدؤوكم حجّة اُخرى لكم عليهم، فإذا كانت الهزيمة بإذن الله فلا تقتلوا مدبراً ولا تُصيبوا مُعوراً ولا تجهزوا على جريح، ولا تهيجوا النساء بأذىً وإن شتمن أعراضكم وسببن أُمراءكم"(3).

والجدير بالذكر أن بعض المفسّرين ذهب طبقاً لبعض الروايات أن هذه الآية ناسخة للآية التي تنهى عن القتال من قبيل (كفوا أيديكم)(4).

وذهب آخرون إلى أنها منسوخة بالآية (وقاتلوا المشركين كافة)(5).

ولكن الصحيح أن هذه الآية لا ناسخة ولا منسوخة، لأن منع المسلمين من قتال الكفّار كان في زمن لم يكن للمسلمين القوّة الكافية، ومع تغيّر الظروف صدر الأمر لهم بالدفاع عن أنفسهم، وكذلك قتال المشركين فهو في الواقع استثناء من الآية، فعلى هذا يكون تغيير الحكم بسبب تغيير الظروف لا من قبيل النسخ ولا الاستثناء، ولكن القرائن تدلّ على أن النسخ في الروايات وفي كلمات القدماء له مفهوم غير مفهومه في العصر الحاضر، أي له معنىً واسع يشمل هذه الموارد أيضاً.

في الآية التالية الّتي تعتبر مكملّة للأمر الصادر في الآية السابقة تتحدّث هذه الآية بصراحة أكثر وتقول: إنّ هؤلاء المشركين هم الّذين أخرجوا المؤمنين من ديارهم وصبّوا عليهم ألوان الأذى والعذاب، فيجب على المسلمين أن يقتلوهم أينما وجدوهم، وأنّ هذا الحكم هو بمثابة دفاع عادل ومقابلة بالمثل، لأنّهم قاتلوكم وأخرجوكم من مكّة (واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم).

ثمّ يضيف الله تعالى (والفتنة أشدُّ من القتل).

أمّا المراد من (الفتنة) ما هو؟ فهناك أبحاث عديدة بين المفسرين و أرباب اللّغة، فهذه المفردة في الأصل من (فَتْن) على وزن مَتْن، ويقول الراغب في مفرداته أنّها تعني وضع الذهب في النار للكشف عن درجة جودته وإصالته، وقال البعض أنّ المعنى هو وضع الذهب في النار لتطهيره من الشوائب(6)، وقد وردت مفردة الفتنة ومشتقاتها في القرآن الكريم عشرات المرّات وبمعان مختلفة.

فتارة جاءت بمعنى الإمتحان مثل (أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يُفتنون)(7).

وتارةً وردت بمعنى المكر والخديعة في قوله تعالى (يا بني آدم لا يَفْتَتِنَنّكُم الشّيطان)(8).

وتارةً بمعنى البلاء والعذاب مثل قوله (يوم هم على النّار يُفتنون ذوقوا فتنتكم)(9).

وتارةً وردت بمعنى الضّلال مثل قوله (ومن يُرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً)(10).

وتارةً بمعنى الشرك وعبادة الأوثان أو سد طريق الإيمان أمام الناس كما في الآية مورد البحث وبعض الآيات الواردة بعدها فيقول تعالى: (وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة ويكون الدّين لله).

ولكنّ الظاهر أنّ جميع هذه المعاني المذكورة للفتنة تعود إلى أصل واحد (كما في أغلب الألفاظ المشتركة)، لأنه مع الأخذ بنظر الإعتبار أنّ معنى الأصل هو وضع الذهب في النار لتخليصه من الشوائب فلهذا استعملت في كلّ مورد يكون فيه نوع من الشّدة، مثل الإمتحان الّذي يقترن عادةً بالشّدة ويتزامن مع المشكلات، والعذاب أيضاً نوع آخر من الشّدة، وكذلك المكر والخديعة التي تُتّخذ عادةً بسبب أنواع الضغوط والشدائد، وكذلك الشرك وايجاد المانع في طريق ايمان الناس حيث يتضمّن كلّ ذلك نوع من الشّدة والضغط.

والخلاصة أنّ عبادة الأوثان وما يتولّد منها من أنواع الفساد الفردي والإجتماعي كانت سائدة في أرض مكّة المكرّمة حيث لوّثت بذلك الحرم الإلهي الآمن، فكان فسادها ااشد من القتل فلذلك تقول هذه الآية مورد البحث مخاطب

المسلمين: أنّه لا ينبغي لكم ترك قتال المشركين خوفاً من سفك الدماء فإنّ عبادة الأوثان أشد من القتل.

وقد أورد بعض المفسّرين احتمالاً آخر، وهو أن يكون المراد من الفتنة هنا الفساد الإجتماعي من قبيل تبعيد المؤمنين من أوطانهم حيث تكون هذه الاُمور أحياناً أشد من القتل أو سبباً في قتل الأنفس والأفراد في المجتمع، فنقرأ في الآية (73) من سورة الأنفال قوله تعالى (إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)أي إذا لم تقطعوا الرابطة مع الكفّار فسوف تقع فتنة كبيرة في الأرض وفساد عظيم.

ثمّ تشير الآية إلى مسألة اُخرى في هذا الصدد فتقول: إنّ على المسلمين أن يحترموا المسجد الحرام دائماً وأبداً، ولذلك لا ينبغي قتال الكفّار عند المسجد الحرام،إلاّ أن يبدئوكمبالقتال (ولاتقاتلوهم عندالمسجد الحرام حتّى يقاتلوكم فيه).

(فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين) لأنّهم عندما كسروا حرمة هذا الحرم الإلهي الآمن فلا معنى للسكوت حينئذ ويجب مقابلتهم بشدّة لكي لا يسيئوا الاستفادة من قداسة الحرم وإحترامه.

ولكن بما أنّ الإسلام في منهجه التربوي للناس يقرن دائماً الإندار والبشارة معاً، والثواب والعقاب كذلك، لكي يؤثّر في المسلمين تأثيراً سليماً، فلذلك فسح المجال في الآية التالية للعودة والتوبة فقال (فإن انتهوا فإنّ الله غفور رحيم).

أجل فلو أنّهم تركوا الشرك وأطفؤوا نيران الفتنة والفساد فسوف يكونون من إخوانكم، وحتّى بالنّسبة إلى الغرامة والتعوضيات الّتي تجب على سائر المجرمين بعد قيامهم للجريمة فإنّ هؤلاء المشركون معفون من ذلك ولا يشملهم هذا الحكم.

وذهب البعض إلى أنّ جملة (فإن انتهوا) بمعنى ترك الشرك والكفر (كما ذكرناأعلاه).

وذهب البعض إلى أنّ المعنى هو ترك الحرب والقتال في المسجد الحرام أو أطرافه.

ولكنّ الجمع بين هذين المعنيين ممكنٌ أيضاً.

الآية التالية تشير إلى هدف الجهاد في الإسلام وتقول: (وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة ويكون الدّين لله).

ثمّ تضيف: فإن ترك هؤلاء المشركون عقائدهم الباطلة وأعمالهم الفاسدة فلا تتعرّضوا لهم (فإن انتهوا فلا عدوان إلاّ على الظالمين).

وحسب الظاهر ذُكر في هذه الآية ثلاثة أهداف للجهاد وهي:

1- إزالة الفتنة.

2- محو الشرك وعبادة الأوثان.

3- التصدّي للظلم والعدوان.

ويُحتمل أن يكون المراد من الفتنة هو الشرك أيضاً وعلى هذا يكون الهدف الأوّل والثاني واحداً، وهناك أيضاً احتمال آخر وهو أنّ المراد من الظلم هنا هو الشرك أيضاً كما ورد في الآية (16) من سورة لقمان (إنَّ الشركَ لظُلمٌ عظيم).

وعلى هذا الأساس فإنّ هذه الأهداف الثلاثة تعود إلى هدف واحد وهو التصدي للشرك وعبادة الأوثان والّذي يمثّل المصدر الأساس لكلّ أنواع الفتن والمظالم والعدوان.

وذهب البعض إلى أنّ الظلم في هذه الآية بمعنى الإبتداء بالحرب أو القتال في الحرم الإلهي الآمن، ولكنّ الإحتمال الأوّل وهو أنّ المراد من الآية هو الأهداف الثلاثة المتقدّمة أقوى، فصحيح أنّ الشرك هو أحد مصاديق الفتنة، ولكنّ الفتنة لها مفهوم أوسع من الشرك، وصحيح أيضاً أنّ الشرك أحد مصاديق الظلم، ولكنّ الظلم له مفهوم أوسع أيضاً، فعندما نرى تفسيره بالشرك أحياناً فهو لبيان المصداق.

وعلى هذا الأساس لا يكون الجهاد في الإسلام لغرض التسلّط على البلدان والفتوحات، وليس لغرض تحصيل الغنائم، ولا بهدف تملّك الأسواق للتّجارة أو السيطرة على ثروات ومعادن البلدان الاُخرى، أو من أجل غلبة العنصر القومي على آخر.

فالهدف هو أحد الثلاثة المتقدّمة: إزالة الفتن والفوضى الّتي تؤدّي إلى سلب حريّة الناس وأمنهم، وكذلك محو آثار الشرك وعبادة الأوثان، وأيضاً التصدّي للظّالمين والمعتدين والدفاع عن المظلومين.

بحوث

1- مسألة الجهاد في الإسلام

نلاحظ في الكثير من المذاهب الوضعيّة المنحرفة أنّه لا وجود للجهاد لديهم إطلاقاً، فكلّ ما فيه يدور حول محور النصائح والمواعظ الأخلاقية، حتّى أنّ البعض عندما يسمع بوجود مقالة الجهاد واستعمال القوّة كأحد الأركان المهمّة في التعاليم الإسلاميّة يتعجّب كثيراً على إقتران الدين بالحرب.

ولكن مع ملاحظة أنّ الحكّام الطواغيت والفراعنة وأمثالهم من النمروديّين والقارونييّن الّذين يعترضون دائماً على دعوة الأنبياء الإصلاحيّة ويقفون بوجهها ولا يرضون إلاّ بإزالة الدين الإلهي من الوجود يتّضح أنّ على المؤمنين والمتديّنين في الوقت الّذي يعتمدون على العقل والمنطق والأخلاق في تفاعلهم الإجتماعي مع الآخرين عليهم أن يتصدّوا لهؤلاء الظالمين والطّواغيت ويشقّوا طريقهم بالجهاد وتحطيم هذه الموانع والعوائق الّتي يقيمها حكّام الجور في طريقهم.

وأساساً فإنّ الجهاد هو من علامات الحياة لكلّ موجود ويمثّل قانوناً عامّاً في عالم الأحياء، فجميع الكائنات الحيّة أعم من الإنسان والحيوان والنبات تجاهد عوامل الفناء من أجل بقائها، وسيأتي مزيد من التوضيح في هذا المجال في سورة النساء ذيل الآية 95 و 96.

وعلى كلّ حال فإنّ من افتخاراتنا نحن المسلمين أنّ ديننا يقرن المسائل الدينيّة بالحكومة ويعتمد على الجهاد كأحد أركان المنظومة العقائديّة لهذا الدين، غاية الأمر يجب ملاحظة أهداف هذا الجهاد الإسلامي، وهذا هو الّذي يفصل بيننا وبين الآخرين.

2- أهداف الجهاد في الإسلام

يصرّ البعض من المتغرّبين أنّ الجهاد الإسلامي منحصر في الجهاد الدفاعي ويحاولون توجيه جميع غزوات النبي الأكرم (ص) أو الحروب الّتي حدثت بعده في هذه الدائرة، في حين أنّه لا يوجد دليل على هذه المسألة، ولم تكن جميع غزوات رسول الله (ص) دفاعيّة، فمن الأفضل العودة إلى القرآن الكريم بدل هذه الإستنباطات الخاطئة لإستجلاء أهداف الجهاد من القرآن الكريم، تلك الأهداف المنطقيّة القابلة للعرض على الصّديق والعدو.

وكما تقدّم في الآيات أعلاه أنّ الجهاد في الإسلام يتعقّب عدّة أهداف مباحة:

الف- الجهاد من أجل إطفاء الفتن وبعبارة اُخرى الجهاد الإبتدائي من أجل التحرير، فنحن نعلم أنّ الله عزّوجلّ قد أنزل على البشريّة شرائع وبرامج لسعادة البشر وتحريرهم وتكاملهم وإيصالهم إلى السعادة والرفاه، وأوجب على الأنبياء (عليهم السلام) أن يبلّغوا هذه الشرائع والإرشادات إلى الناس، فلو تصوّر أحد الأفراد أو طائفة من الناس أنّ إبلاغ هذه الشرائع للناس سوف يعيقه عن نيل منافعه الشخصيّة وسعى لإيجاد الموانع ووضع العصي في عجلات الدعوة الإلهيّة، فللأنبياء الحقّ في إزالة هذه الموانع بطريقة المسالمة أوّلاً وإلاّ فعليهم استخدام القوّة في إزالة هذه الموانع عن طريق الدّعوة لنيل الحريّة في التبليغ.

وبعباره اُخرى: أنّ الناس في جميع المجتمعات البشريّة لهم الحقّ في أن يسمعوا مقالة منادي الحقّ وهم أحرار في قبول دعوة الأنبياء، فلو تصدّى فرد أو جماعة لسلب هذا الحقّ المشروع للناس وحرمانهم منه ومنعوا صوت الحقّ من الوصول إلى الناس ليحرّرهم من قيود الأسر والعبوديّة الفكريّة والإجتماعيّة، فلأتباع الدين الحقّ في الإستفادة من جميع الوسائل لتهيئة هذه الحريّة، ومن هنا كان (الجهاد الإبتدائي) في الإسلام وسائر الأديان السماويّة ضروريّاً.

وكذلك إذا استخدم البعض القوّة والإرهاب في حمل جماعة من المؤمنين على ترك دينهم والعودة إلى الدين السابق لهم، فللمؤمنين الحقّ في الإستفادة من جميع الوسائل لرفع هذا الإكراه والإرهاب.

ب- الجهاد الدفاعي

هل من الصحيح أن يواجه الإنسان هجوماً وعدواناً عليه ولا يدافع عن نفسه؟ أو أن يقوم جيش معتدي بالهجوم على بعض الشعوب الاُخرى ولا تقوم تلك الشعوب بالدفاع عن نفسها وعن بلدها بل تقف موقف المتفرّج؟

هنا نجد أنّ جميع القوانين السماويّة والبشريّة تبيح للفرد أو الجماعة الدّفاع عن النفس والإستفادة ممّا وسعهم من قوّة في هذا السبيل، ويسمّى مثل هذا الجهاد بـ (الجهاد الدفاعي) ومن ذلك غزوة الأحزاب واُحد ومؤتة وتبوك وحنين ونظائرها من الحروب الإسلاميّة الّتي لها جنبة دفاعيّة.

وفي هذا الزمان نجد أنّ الكثير من أعداء الإسلام يعتدون على المسلمين

ويشعلون نيران الحروب للسّيطرة على البلاد الإسلاميّة ونهب ثرواتها، فكيف يُبيح الإسلام السكوت أمام هذا العدوان؟

ج- الجهاد لحماية المظلومين

ونلاحظ فرعاً آخر من فروع الجهاد في الآيات القرآنية الكريمة، وهو الجهاد لحماية المظلومين، فتقرأ في الآية (75) من سورة النساء (وَ ما لكم لا تُقاتلوُنَ في سَبيلِ اللهِ وَ المُسْتَضْعَفينَ مِنَ الرّجالِ والنّساء والوِلْدان الّذين يقولون ربَّنا أخْرِجْنا مِنْ هذه الْقَريَة الظّالمِ أهلها وأجْعَلْ لَّنا مِن لّدُنك وَليّاً وأجْعَلْ لّنا مِنْ لَدُنك نَصيراً).

وعلى هذا الأساس فالقرآن يطلب من المسلمين الجهاد في سبيل الله وكذلك في سبيل المستضعفين المظلومين، وأساساً إنّ هاتين الغايتين متحدّتان، ومع الأخذ بنظر الإعتبار عدم وجود قيد أو شرط في الآية أعلاه نفهم من ذلك وجوب الدفاع عن جميع المظلومين والمستضعفين في كلّ نقطة من العالم القريبة منها أو البعيدة، وفي الداخل أو الخارج.

وبعبارة اُخرى: أنّ حماية المظلومين في مقابل عدوان الظّالمين هو أصل في الإسلام يجب مراعاته، حتّى لو أدّى الأمر إلى الجهاد واستخدام القوّة، فالإسلام لا يرضى للمسلمين الوقوف متفرّجين على ما يرد على المظلومين في العالم، وهذا الأمر من الأوامر المهمّة في الشريعة الإسلاميّة المقدّسة الّتي تحكي عن حقانيّة هذا الدّين.

د- الجهاد من أجل دحر الشرك وعبادة الأوثان

الإسلام يدعوا البشريّة إلى اعتناق الدّين الخاتم الأكمل وهو يحترم مع ذلك حريّة العقيدة، وبذلك يُعطي أهل الكتاب الفرصة الكافية للتّفكير في أمر إعتناق الرّسالة الخاتمة، فإن لم يقبلوا بذلك فإنّه يعاملهم معاملة الأقليّة المعاهدة (أهل الذّمة) ويتعايش معهم تعايشاً سلميّاً ضمن شروط خاصّة بسيطة وميسورة، لكنّ الشرك والوثنيّة ليسا بدين ولا عقيدة ولا يستحقّان الإحترام، بل هما نوع من الخرافة والحمق والإنحراف ونوع من المرض الفكري والأخلاقي الّذي ينبغي أن يستأصل مهما كلّف الثمن.

كلمة حريّة العقيدة واحترام أفكار الآخرين تصدق في مواقع يكون لهذه العقيدة والأفكار على أقلّ تقدير أساس من الصحّة، أما الإنحراف والخرافةوالضلال فليست بأشياء تستحق الإحترام، ولذلك يأمر الإسلام بضرورةإقتلاع جذور الوثنيّة من المجتمع ولو كلّف ذلك خوض الحرب، وضرورةهدم آثار الشرك والوثنيّة بالطرق السلميّة أوّلاً، فإن تعذّرت الطرقالسلميّة فبالقوّة.

أجل فالإسلام يرى ضرورة تطهير الأرض من أدران الشرك والوثنيّة ويعدالمسلمين بمستقبل مشرق للبشريّة في العالم تحت ظل حكومة التوحيد وزوال كلّ أنواع الشرك والوثنيّة.

وممّا تقدّم من ذكر أهداف الجهاد يتّضح أنّ الإسلام أقام الجهاد على اُسس منطقية وعقلية، فلم يجعله وسيلة للتّسلّط والسيطرة على البلدان الاُخرى وغصب حقوق الآخرين و تحميل العقيدة واستعمار واستثمار الشعوب الاُخرى، ولكنّنا نعلم أنّ أعداء الإسلام وخاصّة القائمون على الكنيسة والمستشرقين المغرضين سعوا كثيراً لتحريف الحقائق ضد مسألة الجهاد الإسلامي، واتّهموا الإسلام باستعمال الشدّة والقوّة والسيف من أجل تحميل الإيمان به وتهجمّوا كثيراً على هذا القانون الإسلامي.

والظّاهر أنّ خوفهم وهلعهم إنّما هو من تقدّم الإسلام المضطرد في العالم بسبب معارفه السّاميّة وبرنامجه السّليم، ولهذا سعوا لإعطاء الإسلام صبغة موحشة كيما يتمكنّوا من الوقوف أمام انتشار الإسلام.

3- لماذا شرّع الجهاد في المدينة

نعلم أنّ الجهاد وجب على المسلمين في السنّة الثانية بعد الهجرة، ولم يكن قد شُرّع قبلها، والسبب واضح فهو يعود من جهة إلى قلّة عدد المسلمين في مكّة بحيث يكون الأمر بالكفاح المسلّح في مثل هذه الحالة هو الإنتحار بعينه، ومن جهة اُخرى كان العدو في مكّة قويّاً جدّاً، فمكّة في الواقع كانت مركز القوى المعادية للإسلام، ولم يكن بالإمكان حمل السّلاح فيها.

أمّا حين قدم النبي (ص) إلى المدينة إزداد عدد المؤمنين واتسع نطاق الدّعوة داخل المدينة وخارجها، وتأسّست الحكومة الإسلاميّة الصالحة، وتهيّأت وسائل الجهاد ضدّ العدو على صعيد العدّة والعدد، وبما أنّ المدينة المنوّرة كانت بعيدة عن مكّة استطاع المسلمون في حالة من الأمن والطمأنينة أن يبنوا وجودهم ويعدّوا أنفسهم لمواجهة العدو والدفاع عن رسالتهم.


1- بحثنا في هذا الموضوع ذيل الآية (12) من سورة الاسراء، وكذلك ذيل الآية (5) من سورة يونس. - تفسير الفخر الرازي، المجلد 5، ص 127.

2

3- نهج البلاغة - الكتب والرسائل - رقم 14.

4- سورة النساء، 77.

5- التوبة، 36.

6- روح المعاني، المجلد الثاني، ص 65.

7- العنكبوت: 2.

8- الأعراف: 27.

9- الذاريات: 13 ، 14.

10- المائدة: 41.