الآيتان 153 - 154

الآيتان (153)-(154) من سورة البقرة

﴿يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَوةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّـبِرِينَ* وَلاَ تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبِيلِ اللهِ أَمْوَتٌ بَلْ أَحْيَآءٌ وَلَـكِن لاَّ تَشْعُرُونَ﴾

سبب النّزول

روي عن ابن عباس بشأن نزول الآية الثانية إنها نزلت في قتلى بدر، وعددهم أربعة عشر، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار.

وبعد انتهاء الغزوة قال بعض المسلمين عن هؤلاء الشهداء إنّهم «أموات» فنهت الآية عن ذلك.

التّفسير

الشّهداء أحياء:

الآيات السابقة عرضت مفاهيم التعليم والتربية والذكر والشكر، وهي مفاهيم ذات معنى واسع جداً، وتتضمن أغلب التعاليم الدينية، وفي الآية الاُولى من آيتي بحثنا دار الحديث حول الصبر الذي لا تتحقق المفاهيم السابقة بدونه.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاة).

واجهوا المشاكل والصعاب بهاتين القوتين، فالنصر حليفكم: ﴿إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابرِينَ﴾.

خلافاً لما يتصور بعض النّاس «الصَّبْر» لا يعني تحمل الشقاء وقبول الذلة والإستسلام للعوامل الخارجية، بل الصبر يعني المقاومة والثبات أمام جميع المشاكل والحوادث.

لذلك قال علماء الأخلاق إن الصبر على ثلاث شعب:

الصبر على الطّاعة: أي المقاومة أمام المشاكل التي تعتري طريق الطاعة.

الصبر على المعصية: أي الثبات أمام دوافع الشهوات العادية وارتكاب المعصية.

الصبر على المصيبة: أي الصمود أمام الحوادث المرّة وعدم الإنهيار وترك الجزع والفزع.

قلّما كرر القرآن موضوعاً وأكد عليه كموضوع «الصبر»، ففي سبعين موضعاً قرآنياً تقريباً دار الحديث عن الصبر.

بينها عشرة تختص بالنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

تاريخ العظماء يؤكد أن أحد عوامل انتصارهم - بل أهمها - صبرهم واستقامتهم.

والأفراد الفاقدون لهذه الصفة سرعان ما ينهزمون وينهارون.

ويمكن القول أن دور هذا العامل في تقدم الأفراد والمجتمعات يفوق دور الإمكانات والكفاءات والذكاء ونظائرها.

من هنا طرح القرآن هذا الموضوع بعبارات مؤكدة كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَاب﴾

وفي موضع آخر يقول سبحانه بعد أن ذكر الصبر أمام الحوادث: ﴿إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْم الأُمُورِ﴾

من خصائص الصبر أن بقية الفضائل لا يكون لها قيمة بدونه، لأن السند والرصيد في جميعها هو الصبر، لذلك يقول أميرالمؤمنين علي (عليه السلام) : «وَعَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ فَإِنَّ الصَّبْرَ مِنَ الإِيْمَانِ كَالرَّأسِ مِنَ الْجَسَدِ، وَلاَ خَيْرَ في جَسَد لاَ رَأْسَ مَعَهُ وَلاَ فِي إِيمَان لاَ صَبْرَ مَعَهُ».

الروايات الإسلامية ذكرت أن أسمى مراحل الصبر ضبط النفس تتجلّى في مقاومة الانسان عند توفّر وسائل المعاصي والذنوب.

الآية التي يدور حولها بحثنا تؤكد للجماعة المسلمة الثائرة في صدر الإسلام خاصة أن الأعداء يحيطونهم من كل حدب وصوب، وتأمرهم أن يستعينوا بالصبر أمام الحوادث، فنتيجة ذلك استقلال الشخصية والإِعتماد على النفس والثّقة بالذات في كنف الإيمان بالله.

وتاريخ الإسلام يشهد بوضوح أن هذا الأصل كان أساس كل الإنتصارات.

الموضوع الآخر الذي أكدت عليه الآية أعلاه باعتباره السند الهام إلى جانب الصبر هو «الصلاة».

وروي أن عليّاً (عليه السلام) : «كَانَ إِذَا أَهالَهُ أَمْرٌ فَزِعٌ قَامَ إِلى الصَّلاَةِ ثُمَّ تَلاَ هذِهِ الآية: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ...﴾.

ولا عجب في ذلك، فالإِنسان حين يرى نفسه أمام عواصف المشاكل المضنية، ويحسّ بضعفه في مواجهتها، يحتاج إلى سند قوي لا متناه يعتمد عليه.

والصلاة تحقق الإرتباط بهذا السند، وتخلق الطمأنينة الروحية اللازمة لمواجهة التحديات.

فالآية أعلاه تطرح مبدأين هامّين: الأوّل - الإعتماد على الله، ومظهره الصلاة، والآخر - الإعتماد على النفس، وهو الذي عبرت عنه الآية بالصبر.

وبعد ذكر الصبر والإستقامة تتحدث الآية التالية عن خلود الشهداء، الذين يجسّدون أروع نماذج الصابرين على طريق الله.

تقول الآية: ﴿وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ﴾ ثم تؤكد هذا المفهوم ثانية بالإستدراك ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ﴾.

في كل حركة - أساساً - تنزوي مجموعة محبّة للعافية، وتبتعد عن الاُمّة الثائرة، ولا تكتفي هي بالتقاعس والتكاسل، بل تسعى إلى تثبيط عزائم الآخرين وبثّ الرخوة والتماهل في المجتمع.

وما أن تظهر حادثة مؤلمة حتى يعربون عن أسفهم وينقمون على الحركة التي أدت إلى هذه الحادثة، غافلين أن كل هدف مقدس يحتاج إلى تضحيات، وتلك سنة كونية.

القرآن الكريم يتحدث عن مثل هذه الفئة كراراً ويؤنّبهم بشدّة.

ثمة أفراد من هؤلاء كانوا يتظاهرون بالتأسف والتألم على (موت) شهيد من شهداء الإسلام في المعركة، ويبعثون بذلك القلق والاضطراب في النفوس.

والله سبحانه يرد على هذه الأقاويل السامة بالكشف عن حقيقة كبرى هي إن الذين يضحون بأنفسهم في سبيل الله ليسوا بأموات... هؤلآء أحياء... ويتمتعون بنعم الله ورضوانه، لكن البشر المحدودين في عالم الحسّ لا يدركون هذه الحقائق.

بحوث

1 - خلود الشّهداء:

للمفسرين آراء مختلفة في معنى حياة الشّهداء وخلودهم.

ظاهر الآية يشيردون شك إلى أنّهم يتمتعون بنوع من الحياة البرزخية الروحية، لأن أجسامهم قد تلاشت، فهم يعيشون تلك الحياة بجسم مثالي كما يقول الإمام الصادق (عليه السلام) .

من المفسرين من قال إنها «حياة غيبية» خاصة بالشّهداء لا تتوفر لدينا تفاصيلها وخصائصها.

وقيل إن الحياة المذكورة في الآية تعني الهداية، والموت يعني الضلال، فتكون الآية قد نهت عن وصف الشهداء بالضلالة، بل هم مهتدون.

وقيل إن الشهداء أحياء لأن هدفهم حي ورسالتهم حية.

ولكن مع الاخذ بنظر الاعتبار التّفسير الأول للحياة يتضح أن المعاني في الاُخرى غير مقبوله.

فلا حاجة لأن نتكلف التّفسيرين التاليين، ولا أن الحياة البرزخية مختصة بالشهداء فهم يحيون حياة برزخية روحانية، ويتنعمون كذلك بالقرب من رحمة الله وبأنواع نِعَمه.

2 - الشّهادة سعادة في الإسلام:

قرر الإسلام مسألة الشهادة وبيّن منزلتها العظيمة في الآية أعلاه وآيات يياُخرى لتكون عام فعّا هامّاً على ساحة المواجهة بين الحق والباطل.

وهذا العامل أمضى من أي سلاح وأقوى من كل المؤثرات، وهو قادر على أن يجابه أخطر الأسلحة وأفتكها في عصرنا الراهن، وتجربة الثورة الإسلامية في إيران أثبتت ذلك بوضوح.

وقد شاهدنا بأم أعيننا إنتصار المندفعين نحو الشهادة - بالرغم من ضعف إمكاناتهم المادية - على أعتى القوى المتجبّرة.

ولو ألقينا نظرة على تاريخ الإسلام، والملاحم التي سطرها المسلمون في جهادهم الدّامي، والتضحيات التي قدمها المجاهدون على طريق الرسالة، لألفينا أن الدافع الأساس لكل هذه التضيحات هو درس الشهادة الذي لقنه الإسلام لأبنائه، وبموجبه آمنوا أن الشهادة على طريق الله وطريق الحق والعدالة لا تعني الفناء، بل السعادة والحياة الخالدة.

المقاتلون الذين تلقوا مثل هذا الدرس في مثل هذه المدرسة الكبرى، لا يقاسون بالمقاتلين العاديين الذين يفكّرون في صيانة أرواحهم.

أولئك يحاربون من أجل الرسالة ويندفعون بشوق عظيم نحو كسب وسام الشهادة.

3 - الحياة البرزخية وبقاء الروح:

هذه الآية تثبت بوضوح بقاء الروح والحياة البرزخية للبشر (الحياة بعد الموت وقبل البعث)، وتردّ بصراحة على أولئك الذين ينكرون تعرض القرآن للحياة البرزخية وبقاء الروح.

سنفصّل الحديث في هذا الموضوع، وفي موضوع خلود الشّهداء ومنزلتهم العظيمة، في المجلد الثاني من هذا التّفسير عند تناولنا الآية 169 من سورة آل عمران.