الآيتان 151 - 152
الآيتان (151)-(152) من سورة البقرة
﴿كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُول مِّنكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ ءَايَـتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَـبَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ* فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِى وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾
التّفسير
مهمّة رسول الله:
ذكرت الفقرة الأخيرة من الآية السابقة أن أحد أسباب تغيير القبلة هو إتمام النعمة على النّاس وهدايتهم، والآية أعلاه ابتدأت بكلمة «كما» إشارة إلى أن تغيير القبلة ليس هو النعمة الوحيدة التي أنعمها الله عليكم، بل منَّ عليكم بنعم كثيرة ﴿كَمَا يأَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُو مِنْكُمْ﴾.
وكلمة «منكم» قد تعني أن الرّسول بشرٌ مثلكم، والإنسان وحده هو القادر على أن يكون مربّي البشر وقدوتهم وأن يتحسس آمالهم وآلامهم، وتلك نعمة كبرى أن يكون الرّسول بشراً «مِنْكُمْ».
وقد يكون المعنى أنه من بني قومكم ووطنكم، فالعرب الجاهليون قوم متعصبون عنصريون، وما كان بالإمكان أن يخضعوا لنبي من غير قومهم، كما قال سبحانه في الآيتين: (198 و199) من سورة الشعراء: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنينَ﴾.
كان هذا طبعاً للمرحلة الاُولى من الدعوة، وفي المراحل التالية أُلغيت مسائل القومية والوطن (الجغرافي)، وربّى الإسلام أبناءه على أساس مبادىء «العالميّة» كوطن، و«الإِنسانية» كقومية.
بعد ذكر هذه النعمة يشير القرآن إلى أربع نِعَم عادت على المسلمين ببركة هذه النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) :
1 - ﴿يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا﴾، ويتلو من التلاوة، أي من إتيان الشيء متوالياً، والإتيان بالعبارات المتوالية (وبنظام صحيح) هي التلاوة.
النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذن يقرأ عليكم آيات الله متتالية، لتنفذ إلى قلوبكم، ولإعداد أنفسكم إلى التعليم والتربية.
2 - ﴿وَيُزَكِّيكُمْ﴾ و«التّزكية»ي هو الزيادة والإنماء، أي إنّ النّبي بفضل آيات الله يزيدكم كما مادياً ومعنوياً، وينمّي أرواحكم، ويربّي في أنفسكم الطهر والفضيلة، ويزيل ألوان الرذائل التي كانت تغمر مجتمعكم في الجاهلية.
3 - ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ والْحِكْمَةَ﴾ التعليم طبعاً مقدم بشكل طبيعي على التربية، ولكن القرآن - كما ذكرنا - يقدم التربية في مواضع تأكيداً على أنها هي الهدف النهائي.
الفرق بين «الكتاب» و«الحكمة» قد يكون بلحاظ أن الكتاب إشارة إلى آيات القرآن والوحي الإِلهي النازل على النّبي بشكل إعجازي، والحكمة حديث النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعاليمه المسمّاة بالسنة.
وقد يكون الكتاب إشارة إلى أصل التعاليم الإِسلامية، والحكمة إشارة إلى أسرارها وعللها ونتائجها.
ومن المفسرين من احتمل أن «الحكمة» إشارة إلى الحالة والملكة الحاصلة من تعاليم الكتاب.
وبامتلاكها يستطيع الفرد أن يضع الأُمور في نصابها.
صاحب «المنار» يرفض أن يكون معنى الحكمة «السنة»، ويستدل على رفضه بالآية الكريمة ﴿ذَلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ﴾.
لكننا نعتقد أن الحكمة لها معنى واسع يشمل الكتاب والسنة معاً، أمّا استعمالها القرآني مقابل «الكتاب» (كما في هذه الآية) فيشير إلى أنها «السنة» لا غير.
4 - ﴿وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ وهذا الموضوع طرحته الفقرات السابقة من الآية، حيث دار الحديث عن تعليم الكتاب والحكمة.
لكن القرآن عاد فأكد ذلك في فقرة مستقلة تنبيهاً على أن الأنبياء هم الذين بيّنوا لكم المعارف والعلوم، ولولاهم لخفي كثير من ذلك عليكم.
فهم لم يكونوا قادة أخلاقيين واجتماعيين فحسب، بل كانوا هداة طريق العلم والمعرفة، وبدون هدايتهم لم يكتب النضج للعلوم الإِنسانية.
بعد استعراض جانب من النعم الإِلهية في الآية، تذكر الآية التالية أن هذه النعم تستدعي الشكر، وبالإستفادة الصحيحة من هذه النعم يؤدي الإنسان حقّ شكر الباري تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُون﴾.
واضح أن عبارة ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ لا تشير إلى معنى عاطفي بين الله وعباده كما يقول النّاس لبعضهم ذلك.
بل تشير إلى أصل تربوي وتكويني، أي اذكروني... اذكروا الذات المقدسة التي هي معدن الخيرات والحسنات والمبرات ولتطهر أرواحكم وأنفسكم، وتكون قابلة لشمول الرحمة الإلهية.
ذكركم لهذه الذات المقدسة يجعل تحرككم أكثر إخلاصاً ومضاء وقوّة واتحاداً.
كذلك المقصود من «الشكر وعدم الكفران» ليس تحريك اللسان بعبارات الشكر، بل المقصود استثمار كل نعمة في محلها وعلى طريق نفس الهدف الذي خلقت له، كي يؤدي ذلك الى زيادة الرحمة الإلهية.
بحثان
1 - أقوال المفسرين في تفسير ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾:
للمفسرين آراء متنوعة في تفسير هذه الآية، وفي بيان كيفية ذكر العبد وذكر الله.
الفخر الرازي في تفسيره لخصها في عشرة:
1 - اُذكروني «بالإطاعة» كي أذكركم «برحمتي».
والشاهد على ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا الله والرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾.
2 - اُذكروني «بالدعاء» كي أذكركم «بالإجابة»، دليل ذلك قوله تعالى: ﴿أُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾.
3 - اُذكروني «بالثناء والطاعة» لأذكركم «بالثناء والنعمة».
4 - اُذكروني في «الدنيا» لأذكركم في «الآخرة».
5 - أُذكروني في «الخلوات» كي أذكركم في «الجمع».
6 - أُذكروني «لدى وفور النعمة» لأذكركم في «الصعاب».
7 - أُذكروني «بالعبادة» لأذكركم «بالعون»، والشاهد على ذلك قوله: ﴿إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَاكَ نَسْتَعِين﴾.
8 - أُذكروني «بالمجاهدة» لأذكركم «بالهداية»، الشاهد على ذلك قوله سبحانه في الآية 69 من سورة العنكبوت: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾.
9 - أُذكروني «بالصدق والإخلاص» لأذكركم «بالخلاص ومزيداً للإختصاص».
10 - أُذكروني «بالربوبية» لأذكركم بالرحمة.
دليل ذلك مجموع آيات سورة الحمد.
كل واحدة من التفاسير المذكورة هي طبعاً مظهر من مظاهر المعنى الواسع للآية.
ولا تقتصر هذه المظاهر على ما سبق فيشمل المعنى أيضاً: أُذكروني «بالشكر» لأذكركم «بزيادة النعمة» كما ورد في قوله سبحانه: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾
كل ذكر لله - كما قلنا - له أثر تربوي في وجود الإنسان إذ يجعل روحه مستعدة لنزول بركات جديدة متناسبة مع طريقة الذكر.
2 - المقصود من ذكر الله:
من المؤكد أن ذكر الله ليس بتحريك اللسان فقط، بل اللسان ترجمان القلب، الهدف هو التوجه بكل الوجود إلى ذات البارئ سبحانه، ذلك التوجّه الذي يصون الإنسان من الذنب ويدعوه إلى الطاعة.
ومن هنا ورد في أحاديث عديدة عن المعصومين: أن ذكر الله ليس باللسان فحسب، ومن ذلك حديث عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ي يوصي به علياً قائ: «ثَلاَثٌ لاَ تُطِيقُهَا هذِهِ الأُمَّةُ: الْمُوَاسَاةٌ لِلأَخِ فِي مَالِهِ، وَإِنْصَافُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِهِ، وَذِكْرُ اللهِ عَلَى حَالِ، وَلَيْسَ هُوَ سُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ للهِ وَلاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ واللهُ أَكْبَرُ، وَلَكِنْ إِذَا وَرَدَ على مَا يَحْرُمُ عَلَيْه خَافَ اللهَ تَعَالى عِنْدَهُ وَتَرَكَهُ».
على أية حال، لا ينبغي أن نغفل عن الروعة في هذا الإقتران... الله سبحانه على عظمته وجلاله وجبروته يقرن ذكره بذكر عبده الضعيف المحدود الصغير، إنه تكريم ما بعده تكريم للإنسان.