الآيات 127 - 129

الآيات من (127) إلى (129) من سورة البقرة

﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَـعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ*ي رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُو مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَـتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـبَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾

التّفسير

إبراهيم يبني الكعبة:

نفهم بوضوح من خلال آيات الذكر الحكيم أن بيت الكعبة كان موجوداً قبل إبراهيم، وكان قائماً منذ زمن آدم.

تتحدث الآية 37 من سورة إبراهيم عن لسان إبراهيم تقول: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَاد غَيْرِ ذِي زَرْع عِنْدَ بَيْتِكَ الُْمحَرَّمِ﴾.

وهذه الآية تدل على أن بيت الكعبة كان له نوع من الوجود حين جاء إبراهيم مع زوجه وابنه الرضيع إلى مكة.

وتقول الآية 96 من سورة آل عمران: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْت وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً﴾.

ومن المؤكد أن عبادة الله وإقامة أماكن العبادة لم تبدأ في زمن إبراهيم، بل كانتا منذ أن خلق الإنسان على ظهر هذه الأرض.

عبارة الآية الاُولى من الآيات محل البحث يؤكد هذا المعنى، إذ تقول: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.

فإبراهيم وإسماعيل قد رفعا قواعد البيت التي كانت موجودة.

وفي خطبة للإِمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في نهج البلاغة، وهي المسماة بالقاصعة، يقول: «أَلاَ تَرَوْنَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ إِخْتَبَرَ الاَْوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ إِلَى الاْخَرِينَ مِنْ هذَا الْعَالَم بِأَحْجَار... فَجَعَلَهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ... ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ (عليه السلام) وَوَلَدَهُ أَنْ يَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ نَحْوَهُ...».

يالقرائن القرآنية والروائية تؤيد أن الكعبة بنيت أوّ بيد آدم، ثم انهدمت في طوفان نوح، ثم أُعيد بناؤها على يد إبراهيم وإسماعيل.

في الآيتين التاليتين يتضرع إبراهيم وإسماعيل إلى ربّ العالمين بخمسة طلبات هامّة.

وهذه الطلبات المقدّسة حين الإِشتغال بإعادة بناء الكعبة جامعة ودقيقة بحيث تشمل كل احتياجات الإِنسان المادية والمعنوية، وتفصح عن عظمة هذين النبيين الكبيرين.

يقالا أوّ: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ﴾.

ثم أضافا: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾.

وطلبا تفهم طريق العبادة: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾، اليعبد الله حقّ عبادته.

ثم طلبا التوبة: ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾.

الآية الأخيرة تضمنت الطلب الخامس، وهو هداية الذرية ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ برَسُول مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.

بحثان

1 - هدف بعثة الأنبياء:

في الآيات أعلاه، بعد أن يطلب إبراهيم وإسماعيل من الله ظهور نبي الإِسلام، يذكران ثلاثة أهداف لبعثته: الأوّل: تلاوة آيات الله على النّاس، أي إيقاط الأفكار والأرواح في ظل الآيات الإِلهية المبشرة والمنذرة.

«يتلو» من تلا، أي اتبع الشيء بالشيء، وسميت «التلاوة» كذلك لأنها قراءة وفق تتبع ونظم.

هي مقدمة لليقظة والإِعداد والتعليم والتربية.

الثّاني: «تعليم الكتاب والحكمة» ولا تتحقق التربية إلاّ بالتعليم.

ولعل التفاوت بين «الكتاب» و«الحكمة» في أن الكتاب يعني الكتب السماوية، والحكمة تعني العلوم والأسرار والعلل والنتائج الموجودة في الأحكام، وهي التي يعلمها النّبي أيضاً.

الثّالث: «التزكية» وهو الهدف الأخير.

و«التزكية» في اللغة هي الإِنماء، وهي التطهير أيضاً.

وبذلك يتلخص الهدف النهائي من بعثة الأنبياء في دفع الإِنسان على مسيرة التكامل «العلمي» و«العملي».

ينبغي التأكيد هنا على أنّ علوم البشر محدودة، مقرونة بآلاف الفجوات المبهمة والأخطاء الكبيرة، والإِنسان أيضاً لا يطمئن بدقة إلى معلوماته، لأنه شاهد أخطائه وأخطاء الآخرين.

من هنا كان من الضروري مجيء الأنبياء بعلومهم الحقّة الخالية من الأخطاء المستمدة من مبدأ الوحي إلى النّاس، ليزيلوا أخطاءهم، ويملأوا فراغات جهلهم، ويبعثوا فيهم اطمئناناً بعلمهم.

ويلزم التأكيد أيضاً على أن الشخصية البشرية تتكون من «عقل» و«غرائز»، ولذلك كان الإِنسان بحاجة إلى «التربية» بقدر حاجته إلى «العلم»، وينبغي أن يتكامل عقله، وأن تتجه غرائزه نحو هدف صحيح.

لذلك فإن الأنبياء معلمون، ومربون، يزودون النّاس بالعلم، وبالتربية.

2 - «التعليم» مقدم أو «التربية»؟

في أربعة مواضع ذكر القرآن مسألة التربية والتعليم باعتبارهما هدف الأنبياء، وفي ثلاثة مواضع منها قُدمت «التربية» على «التعليم» (البقرة، 151 - آل عمران، 164 - الجمعة، 2).

وفي موضع واحد تقدم التعليم على التربية (آية بحثنا).

ونعلم أن التربية لا تتم إلاّ بالتعليم.

لذلك حين يتقدم التعليم على التربية في الآية فإنما ذلك بيان للتسلسل المنطقي الطبيعي لهما.

وفي المواضع التي تقدمت فيها التربية، فقد يكون ذلك إشارة إلى أنها الهدف، لأن الهدف الاصلي هو التربية، وما عداها مقدمة لها.

3 - النّبي من النّاس:

تعبير «منهم» في الآية ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ برَسُول﴾ يشير إلى أن قادة البشرية ينبغي أن يكونوا بشراً بنفس صفات البشر الغريزية، كي يكونوا القدوة اللائقة في الجوانب العملية.

ومن الطبيعي أنهم - لو كانوا من غير البشر - ما استطاعوا إدراك حاجات النّاس والمشكلات العويصة الكامنة لهم في حياتهم، ولا أمكنهم أن يكونوا قدوة واُسوة لهم.