الآيتان 109 - 110

الآيتان (109)-(110) من سورة البقرة

﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـبِ لَوْيَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَـنِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعدِ مَاتَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ واصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِىَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ *وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَءَاتُوا الزَّكَوةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لاَِنْفُسِكُم مِّنْ خَيْر تَجِدُوهُ عِندَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِمَآ تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾

التّفسير

حسد وعناد:

كثير من أهل الكتاب وخاصة اليهود لم يكتفوا بإعراضهم عن الدين المبين، بل كانوا يودّون أن يرتد المسلمون عن دينهم، ولم يكن ذلك إلاّ عن حسد يستعر في أنفسهم، تقول الآية: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ﴾.

وأمام هذه المواقف الدنيئة والنظرات الضيقة والآمال التافهة والنوايا الخبيثة التي تحملها الفئة الكافرة، يحدد الإِسلام موقف الجماعة المسلمة، على أساس من رحابة الصدر وسعة الاُفق وبعد النظرة ﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بَأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ﴾.

هذا الإمر الإِلهي نزل حيث كان المسلمون بحاجة إلى بناء المجتمع الإِسلامي.

وفي تلك الظروف يوجب على المسلمين أن يلجأوا إلى سلاح العفو والصفح حتى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ.

كثير من المفسرين قالوا إن «أمر الله» في هذه الآية يعني «أمر الجهاد»، ولعل الجماعة المسلمة لم تكن على استعداد شامل لخوض معركة دامية حين نزلت هذه الآية، ولذلك قيل إن آيات الجهاد نسخت هذه الآية.

ولعل التعبير بالنسخ في هذا الموضع ليس بصحيح، لأن الآية تحمل في عبارتها الإِطار الذي يحدّها بفترة زمنية محدودة.

الآية التالية تأمر المسلمين بحكمين هامّين: إقامة الصلاة باعتبارها رمز إرتباط الإِنسان بالله، وإيتاء الزكاة وهي أيضاً رمز التكافل بين أبناء الاُمّة المسلمة، وكلاهما ضروريان لتحقيق الإِنتصار على العدو: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَأَتُوا الزَّكَاةَ﴾.

ثم تؤكّد الآية على خلود العمل الصالح وبقائه: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لاَِنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْر تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ﴾.

والله سبحانه عالم بالسرائر، ويعلم دوافع الأعمال، ولا يضيع عنده أجر العاملين ﴿إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.

بحوث

1 - «اصفحوا» من «صفح»، وصفح الشيء عرضه وجانبه كصفحة الوجه وصفحة السيف وصفحة الحجر، والأمر بالصفح هو الأمر بالإِعراض، لكنّ عطفها على «فَاعْفُوا» يفهم أنه أمر بالإِعراض لا عن جفاء، بل عن عفو وسماح.

وهذا التعبير يوحي أيضاً أن المسلمين كانت لهم قدرة المقابلة وعدم الصفح، لكن الأمر بالعفو والصفح يستهدف اتمام الحجّة على العدوّ، كي يهتدي من هو قابل للإِصلاح.

بعبارة اُخرى: ممارسة القوّة ليست المرحلة الاُولى في مواجهة العدوّ، بل العفو والصفح، فإن لم يُجد نفعاً فالسيف.

2 - عبارة ﴿إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ﴾ قد تشير إلى أن الله قادر على أن ينصر المسلمين على أعدائهم بطرق غيبية، ولكن طبيعة حياة البشر والكون قائمة على أن الأعمال لا تتم إلاّ بالتدريج وبعد توفّر المقدمات.

3 - عبارة ﴿حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ﴾ قد تكون إشارة إلى توغل هؤلاء الحسدة في ذاتياتهم، فالحسد قد يتخذ أحياناً طابع الدين والرسالة، لكن حسد هؤلاء لم يكن له حتى هذا الظاهر، بل كان ضيقاً شخصياً.

ويحتمل أيضاً أن تكون إشارة إلى أن الحسد متجذّر في نفوسهم.