الآيات 94 - 96

الآيات من (94) إلى (96) من سورة البقرة

﴿قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الاَْخِرَةُ عِندَ اللهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ* وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدَا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّلِمِينَ* وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَوة وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّأحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ ألْفَ سَنَة وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾

التّفسير

فئة مغرورة:

يبدو من تاريخ اليهود - مضافاً لما أخبر القرآن عنه - أن هؤلاء القوم كانوا يعتبرون أنفسهم فئة متميزة في العنصر، ومتفوقة على سائر الأجناس البشرية، وكانوا يعتقدون أن الجنّة خلقت لهم لا لسواهم، وأن نار جهنم لن تمسّهم، وأنّهم أبناء الله وخاصته، وأنّهم يحملون جميع الفضائل والمحاسن.

هذا الغرور الأرعن تعكسه كثير من آيات الذكر الحكيم الآية من سورة المائدة تقول عن لسانهم: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾.

وفي الآية111 من سورة البقرة نرى إدعاءً آخر لهم: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصارَى﴾، وهكذا في الآية 80 من سورة البقرة: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلاَّ أَيّاماً مَعْدُودَةً﴾.

هذه التصورات الموهومة كانت تدفعهم من جهة إلى الظلم والجريمة والطغيان، وتبعث فيهم - من جهة اُخرى - الغرور والتكبّر والإستعلاء.

والقرآن الكريم يجيب هؤلاء القوم جواباً دامغاً إذ يقول: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾.

ألا تحبّون رحمة الله وجواره ونيل النعيم الخالد في الجنان؟ ألا يحب الحبيب لقاء حبيبه؟!

لقد كان اليهود يهدفون من كلامهم هذا وأن الجنّة خالصة لنا دون سائر النّاس: أو أن النار لاتمسّنا إلاّ أيّاماً معدودات - إلى توهين إيمان المسلمين وتخدير عقائدهم.

لماذا تفرون من الموت، وكل ما في الآخرة من نعيم هو لكم كما تدّعون؟! لماذا هذا الإِلتصاق بالأرض وبالمصالح الذاتية الفردية، إن كنتم مؤمنين بالآخرة وبنعيمها حقّاً؟!

بهذا الشكل فضح القرآن أُكذوبة هؤلاء وبيّن زيف ادعائهم.

في الآية التّالية تأكيد على ما سبق بشأن ابتعاد القوم عن الموت: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ، وَاللهُ عَلَيْمٌ بِالظَّالِمينَ﴾.

هؤلاء يعلمون ما في ملفّ أعمالهم من وثاق سوداء ومن صحائف إدانة، والله عليم بكل ذلك، ولذلك فهم لا يتمنون الموت، لأنه بداية حياة يحاسبون فيها على كل أعمالهم.

الآية الأخيرة تذكر انشداد هؤلاء بالأرض وحرصهم الشديد على المال والمتاع: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أحْرَصَ النّاسِ عَلى حَيَاة﴾ وتذكر الآية أن حرصهم هذا يفوق حرص الذين أشركوا: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أشْرَكُوا﴾.

المشركون ينبغي أن يكونوا أحرص من غيرهم على جمع المال والمتاع، لكن هؤلاء من أصحاب الإدعاءات الفارغة، بلغوا من الحرص ما لم يبلغه المشركون.

وبلغ شغفهم بالدنيا أنّه ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَو يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَة﴾ لجمع مزيد من متاع الدنيا، أو خوفاً من عقاب الآخرة! لكن هذا العمر الذي يتمناه كل واحد منهم لا يبعده عن العذاب، ولا يغيّر من مصيره شيئاً ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أنْ يُعَمَّرَ﴾ إذ كل شيء محصى لدى الله، ولا يعزب عن عمله شيء ﴿واللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾.

بحوث

1 - المقصود من الأعوام الألف في قوله تعالى: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْيُعَمَّرُ ألْفَ سَنَة﴾ليس هذا العدد المعروف، بل يعني العمر الطويل المديد، فهو ليس للتعدد، بل للتكثير.

وذهب بعض المفسرين إلى أن العرب لم تكن تعرف أنذاك عدداً أكبر من الألف، ولم يكن لما يزيد على الألف اسم عند العرب، ولذلك كان أبلغ تعبير عن الكثرة!.

2 - تنكير الحياة في تعبير الآية ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَيَاة﴾ تفيد - كما ذهب إلى ذلك جمع من المفسرين - الإستهانة والتحقير، أي إن هؤلاء حريصون حتى على أتفه حياة وأرخصها وأشقاها، ويفضلونها على الآخرة.

3 - إفرازات العنصرية:

كان التعصّب العنصري وراء كثير من الحروب والمآسي التي حدثت على الساحة البشرية خلال جميع عصور التأريخ، وفي عصرنا الحديث كان التعصب ييالعرقي الألماني عام فعا في إشعال لظى الحربين العالميتين الاُولى والثانية.

واليهود يحتلون دون شك مكان الصدارة بين العنصريين المتعصبين على مرّ التأريخ، وها هي دويلتهم المسماة بإسرائيل أُقيمت على أساس هذه العنصرية المقيتة، وما يرتكبه هذا الكيان العنصري الصهيوني من جرائم فظيعة إنما هو استمرار لجرائمه التأريخية الناشئة عن عنصريته البغيضة.

لقد دفعتهم عنصريتهم لأن يحتكروا حتّى تعاليم موسى، ويزيلوا عنصر الدعوة من دينهم، كي لا يعتنق تعاليمهم أحد غيرهم.

وهذه النزعة الأنانية هي التي جعلت هؤلاء القوم منبوذين ممقوتين من قبل كل شعوب العالم.

التعصب العنصري شعبة من الشرك، ولذلك حاربه الإِسلام بشدّة، مؤكداً أن كل أبناء البشر من أب واحد واُمّ واحدة، ولا تمايز إلاّ بالتقوى والعمل الصالح.

4 - عوامل الخوف من الموت:

أكثر النّاس يخافون من الموت، وخوفهم هذا يعود إلى عاملين:

1 - الخوف من الفناء والعدم، فالذين لا يؤمنون بالآخرة لا يرون بعد هذه الحياة استمرار لحياتهم، ومن الطبيعي أن يخاف الإنسان من الفناء، وهذا الخوف يلاحق هؤلاء حتى في أسعد لحظات حياتهم فيحوّلها إلى علقم في أفواههم.

2 - الخوف من العقاب، ومثل هذا الخوف يلاحق المذنبين المؤمنين بالآخرة، فيخافون أن يحين حينهم وهم مثقلون بالآثام والأوزار، فينالوا جزاءهم، ولذلك يودّون أن تتأخّر ساعة انتقالهم إلى العالم الآخر.

الأنبياء العظام أحيوا في القلوب الإيمان باليوم الآخر، وبذلك أبعدوا شبح الفناء والإنعدام من الأذهان، وبينوا أن الموت انتقال إلى حياة أبدية خالدة منعّمة.

من جهة اُخرى دعا الأنبياء إلى العمل الصالح، كي يبتعد الإنسان عن الخوف من العقاب، ولكي يزول عن القلوب والأذهان كل خوف من الموت.