الآيتان 89 - 90
الآيتان (89)-(90) من سورة البقرة
﴿وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَبٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَّا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَفِرِينَ* بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَآ أَنزَلَ اللهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلَ اللهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَب عَلَى غَضَب وَلِلْكَفِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾
سبب النّزول
روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «كَانَتِ الْيَهُودُ تَجِدُ في كُتُبِهَا أَنَّ مُهاجَرَ (مكان هجرة) محمّد رَسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما بين (جبلي) عَيْر وَاُحد، فخرجوا يطلبون الموضع، فمرّوا بجبل يقال له حداد، فقالوا: حداد وأُحد سواء، فتفرّقوا عنده، فنزل بعضهم بتيماء وبعضهم بفدك وبعضهم بخيبر، فاشتاق الذين بتيماء إلى بعض أخوانهم، فمرّ بهم أعرابي من قيس فتكاروا منه (أي استأجروا إبله) وقال لهم: أمرّ بكم ما بين عَيْر وأُحد، (فعلموا أنهم أصابوا ضالّتهم) فقالوا له: إذا مررت بهما فآذنّا (أخبرنا) بهما، فلما توسط بهم أرض المدينة، قال: ذلك عَير، وهذا أُحد، فنزلوا عن ظهر إبله، وقالوا: قد أصبنا بغيتنا فلا حاجة بنا إلى إبلك، فاذهب حيث شئت، وكتبوا إلى إخوانهم الذين بفدك وخيبر أنا قد أصبنا الموضع فهلمّوا إلينا، فكتبوا إليهم أنّا قد استقرت بنا الدار واتخذنا بها الأموال، وما أقربنا منكم، فإن كان يذلك فما أسرعنا إليكم، واتخذوا بأرض المدينة أموا فلما كثرت أموالهم بلغ ذلك تُبّعاً فغزاهم، فتحصنوا منه، فحاصرهم ثمّ أمّنهم، فنزلوا عليه، فقال لهم: إنّي قد استطبت بلادكم، ولا أراني إلاّ مقيماً فيكم.
فقالوا له: ليس لك ذلك، إنها مهاجر نبي، وليس ذلك لأحد حتى يكون ذلك، فقال لهم: فإني مخلف فيكم من أُسرتي من إذا كان ذلك ساعده ونصره، فخلف حين تراهم الأوس والخزرج، فلما كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود، فكانت اليهود تقول لهم: أما لو بعث محمّد لنخرجنكم من ديارنا وأموالنا، فلما بعث الله محمّداً (عليه السلام) آمنت به الأنصار وكفرت به اليهود، وهو قوله تعالى: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا...﴾ إلى آخر الآية».
نعم، هذه الفئة التي كانت تبحث بولع شديد عن منطلق البعثة المحمّدية، لتكون أول من تؤمن برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكانت تفتخر أمام الأوس والخزرج بأنها ستكون من خاصة صحابة النّبي المبعوث، إذا هي تقف - بسبب لجاجها وعنادها - إلى جانب أعداء النّبي، بينما التف حول الرّسول من كان بعيداً عن هذه الأجواء.
التّفسير
كفروا بمَا دعوا النّاس اليه:
هذه الآيات تتحدث أيضاً عن اليهود ومواقفهم، هؤلاء - كما ورد في أسباب النّزول - هاجروا ليتخذوا من يثرب سكناً بعد أن وجدوا فيها ما يشير إلى أنها أرض الرّسول المرتقب، وبقوا فيها ينتظرون بفارغ الصبر النّبي الذي بشرت به التوراة، كما كانوا ينتظرون الفتح والنصر على الذين كفروا تحت لواء هذا النّبي، لكنهم مع كل ذلك أعرضوا عن الرّسول وعن الرسالة ﴿وَلَمّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ الله مُصَدّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ... فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِريِنَ﴾.
وهكذا تستطيع الأهواء والمصالح الشخصية أن تقف بوجه طالب الحقيقة، مهما كان الفرد عاشقاً لهذه الحقيقة وتوّاقاً للوصول إليها فيتركها ويعرض عنها، بل تستطيع الأهواء أيضاً أن تحوّل هذا الفرد إلى عدوّ لدود لهذه الحقيقة.
ما أشدّ خسارة هؤلاء اليهود، تركوا أوطانهم وهاموا في الأرض بحثاً عن علامات أرض الرسالة، ثم ها هم خسروا كل شيء، وباعوا أنفسهم بأسوأ ثمن: ﴿بِئْسَ مَا اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ﴾.
لقد ضيعوا كل شيء وكأنهم أرادوا أن يكون النّبي الموعود من بني إسرائيل، ولهذا تألّموا من نزول القرآن على غيرهم، بل ممن شاءه الله: ﴿أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ الله مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾.
ولذلك شملهم غضب الله المتوالي: ﴿فَبَاءُو بِغَضَب عَلى غَضَب وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾.
بحثان
1 - صفقة خاسرة:
إنه لخسران عظيم أن تتهيّاً للإنسان كل سبل الهداية ثم يعرض عنها لأُمور تافهة، واليهود المعاصرون للنبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) هم من أُولئك، توفّرت لهم كل هذه السبل، بل تحركوا زمناً يبتغون مصدر هذه الهداية، وعثروا بعد جهد على مبتغاهم حين حطوا رحالهم بين «العير» و«أُحد» انتظاراً للنبي الموعود، ثم إذا هم يخسرون كل شيء، حين علموا أن هذا النّبي المبعوث ليس من بني إسرائيل، أو أنه لا يحقق مصالحهم الشخصية.
ما أكبر الخسارة حين يبيع الإنسان نفسه بهذا الشكل ويشتري بها غضب الله عزّوجلّ! بينما ليس لوجود الإنسان ثمن إلاَّ الجنّة كما يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : «إنَّهُ لَيْسَ لاَِنْفُسِكُمْ ثَمَنٌ إلاَّ الْجَنَّةَ فَلا تَبيعُوهَا إلاَّ بِهَا».
عبارة «اشتراء النفس» أي بيعها توحي أن الإتجاه نحو طريق الضلال بيعٌ للنفس، وكأن الكافر يبيع شخصيته الإنسانية، لأن الكفر يهدم قيمة الانسان من الاساس، وبعبارة اُخرى إنه يكون كالعبيد الذين باعوا أنفسهم فأمسوا اسرى بيد الآخرين... أجل إنّهم أسرى الأهواء وعبيد الشيطان.
2 - غضب على غضب:
القرآن الكريم قال عن بني إسرائيل حين تاهوا في صحراء سيناء بأنَّهُمْ ﴿وَبَاءُوَ بِغَضَب مِنَ الله﴾ بسبب كفرهم بآيات اللّه وقتلهم الأنبياء وفي سورة آل عمران الآية 12، ورد هذا المعنى أيضاً وأن اليهود بسبب كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء باءوا بغضب من الله تعالى.
وهذا هو الغضب الاول.
وهؤلاء أحفادهم من اليهود المعاصرين للبعثة المحمّدية ساروا على طريق أسلافهم في الكفر بالرسالة، وزادوا على ذلك بوقوفهم بوجه الرّسول وتآمرهم على الدعوة ولذلك قال عنهم «فباءو بغضب على غضب».
و«باءُو» بمعنى رجعوا - وأقاموا في المكان - وهنا تعني استحقاقهم لعذاب الله.
فكأنهم عادوا وهم محملون بهذا الغضب الإلهي، أو كأنهم اتخذوا موقفاً يغضب الله.
هؤلاء القوم كانوا يعيشون أمل ظهور النّبي المنقذ، قبل دعوة موسى وقبل دعوة النّبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكان موقفهم من الرّسولين الكريمين واحداً، هو النكول والإعراض، واستحقوا غضب الله وسخطه مرّة بعد اُخرى.