الآيتان 47 - 48

الآيتان (47)-(48) من سورة البقرة

﴿يَـبَنِى إِسْرَ ءِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِىَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَـلَمِينَ* وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْس شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَـعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ﴾

التّفسير

أوهام اليهود:

في هذه الآيات خطاب آخر إلى بني إسرائيل فيه تذكير بنعم الله: ﴿يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ اْلَّتي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾.

هذه النعم سابغة واسعة النطاق، ابتداءً من الهداية والإيمان، وانتهاءً بالنجاة من فرعون ونيل العظمة والاستقلال.

ثم تشير الآية من بين كل هذه النعم إلى نعمة التفضيل على بقية البشر، وهي نعمة مركبة من نعم مختلفة، وتقول: ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمينَ﴾.

لعل البعض تصور أن هذا التفضيل صفة أبدية مستمرة على مرّ العصور.

لكن دراسة سائر آيات القرآن تبين أن هذا التفضيل هو تفضيل بني إسرائيل على يغيرهم من أفراد عصرهم ومنطقتهم، لا تفضي مطلقاً.

فالقرآن الكريم يخاطب المسلمين في آية اُخرى ويقول: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ...﴾.

كما يتحدث القرآن عن وراثة بني إسرائيل للأرض فيقول: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الاَْرْضِ وَمَغَارِبَهَا﴾.

وواضح أن هذه الوراثة لم تكن تشمل آنذاك جميع العالم، والمقصود من الآية مشارق المنطقة التي كانوا يعيشون فيها ومغاربها، من هنا فالتفضيل على العالمين هو تفضيلهم على أفراد منطقتهم.

الآية التالية ترفض أوهام اليهود، التي كانوا يتصورون بموجبها أن الأنبياء من أسلافها سوف يشفعون لهم، أو أنّهم قادرون على دفع فدية وبدل عن ذنوبهم، كدفعهم الرشوة في هذه الحياة الدنيا.

القرآن يخاطبهم ويقول: ﴿وَاتَّقُوا يَوْماً لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْس شَيْئاً. وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ. وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُم يُنْصَرُونَ﴾.

الحاكم أو القاضي في تلك المحكمة الإِلهية، لا يقبل سوى العمل الصالح، كما تقول الآية الكريمة: ﴿يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْب سَلِيم﴾.

إنّ الآية المذكورة من سورة البقرة، تشير في الواقع إلى ما يجري من محاولات في هذه الحياة الدنيا لانقاذ المذنب من العقاب.

ففي الحياة الدنيا قد يتقدم إنسان لدفع غرامة عن إنسان مذنب لانقاذه من العقاب، أما في الآخرة فإنّه: ﴿لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْس﴾.

وربّما يلجأ المذنب في هذه الحياة إلى الشفعاء لينقذوه ممّا ينتظره من الجزاء، ويوم القيامة (... لا يقبل منها شفاعة).

وإذا لم تُوجد الشفاعة، يتقدم الإِنسان في الحياة الدنيا بدفع (العدل) وهوبدل الشيء من جنسه، أما في الآخرة فــ ﴿لاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾.

وإذا لم تنفع الوسائل المذكورة كلها، يستصرخ أصحابه لينصروه ويخلصوه من الجزاء، وفي الآخرة لا يقوم بنجاتهم أحد ﴿وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ﴾.

القرآن الكريم يؤكد أن الاُصول الحاكمة على قوانين الجزاء يوم القيامة تختلف كليّاً عمّا هو السائد في هذه الحياة، فالسبيل الوحيد للنجاة يوم القيامة، هو الإِيمان والتقوى والاستعانة بلطف الباري تعالى.

تاريخ الشرك وتاريخ المنحرفين من أهل الكتاب، مليء بأفكار خرافية تدور حول محور التوسل وبمثل الأمور التي ذكرتها الآية الكريمة للفرار من يالعقاب الاُخروي.

صاحب المنار يذكر مث، أن النّاس في بعض مناطق مصر - كانوا يدفعون مبلغاً من المال إلى الذي يتعهد غسل الميت، ويسمون هذا المبلغ أُجرة الإِنتقال إلى الجنّة.

وفي تاريخ اليهود نقرأ أنهم كانوا يقدمون القرابين للتكفير عن ذنوبهم، وإن لم يجدوا قرباناً كبيراً يكتفون بتقديم زوج من الحمام.

وفي التاريخ القديم كانت بعض الاقوام تدفن مع الميت حليّه وأسلحته، ليستفيد منها في الحياة الاُخرى.

القرآن ومسألة الشّفاعة:

العقاب الإِلهي في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة، لا ينزل بساحةالإِنسان دون شك من أجل الانتقام.

بل إن العقوبات الإِلهية تشكل عنصر الضمان في تنفيذ القوانين، وتؤدي في النتيجة إلى تقدم الإِنسان وتكامله.

من هنا يجب الاحتراز عن أي شيء يضعف من قوّة عنصرالضمان هذا،كي لاتنتشربين النّاس الجرأة على ارتكاب المعاصي والذنوب.

من جهة اُخرى، لا يجوز غلق باب العودة والإِصلاح بشكل كامل في وجه المذنبين، بل يجب فسح المجال لإِصلاح أنفسهم وللعودة إلى الله وإلى الطهر والتقوى.

«الشفاعة» بمعناها الصحيح تستهدف حفظ هذا التعادل.

إنها وسيلة لعودة المذنبين والملوثين بالخطايا، وبمعناها الخاطئ تشجع على ارتكاب الذنوب.

أولئك الذين لم يفرقوا بين المعنى الصحيح والخاطيء لمسألة الشفاعة، أنكروا هذه المسألة بشكل كامل، واعتبروها شبيهة بالوساطات التي تقدم إلى السلاطين والحكام الظالمين.

وثمة مجموعة كالوهابيين استندوا إلى الآية الكريمة: ﴿لاَ يُقْبَلُ مُنْهَا شَفَاعَةٌ﴾ فأنكروا الشفاعة تماماً، دون الإِلتفات إلى سائر الآيات في هذا المجال.

اعتراضات المنكرين لمسألة الشفاعة يمكن تلخيصها بما يلي:

1 - الاعتقاد بالشفاعة، يضعف روح السعي والمثابرة في نفس الإِنسان.

2 - الاعتقاد بالشفاعة، انعكاس عن ظروف المجتمعات المتأخرة والإِقطاعية.

3 - الاعتقاد بالشفاعة، يؤدي إلى التشجيع على ارتكاب الذنوب وترك المسؤوليات.

4 - الاعتقاد بالشفاعة، نوع من الشرك بالله، وهو معارض للقرآن!

5 - الاعتقاد بالشفاعة، يعني تغيير أحكام الله وتغيير إرادته وأوامره!

ولكن كل هذه الاعتراضات ناتجة - كما سنرى - عن الخلط بين الشفاعة بمفهومها القرآني، والشفاعة بمعناها المنحرف الرائج بين الجهلة من النّاس.

ولما كانت هذه المسألة في جانبها الإِيجابي والسلبي ذات أهمية بالغة، فعلينا أن ندرسها بالتفصيل من حيث مفهومها وفلسفتها، وإرتباطهابعالم التكوين، وموقعها في القرآن والحديث، وصلته بالتوحيد والشرك، كي يزول كل إبهام يرتبط بالآية المذكورة وسائر الآيات في حقل الشفاعة.

1 - المفهوم الحقيقي للشّفاعة:

كلمة «الشفاعة» من «الشفع» بمعنى «الزوج» و«ضم الشيء إلى مثله»، يقابلها «الوتر» بمعنى «الفرد».

ثم أُطلقت على انضمام الفرد الأقوى والأشرف إلى الفرد الأضعف لمساعدة هذا الضعيف، ولها في العرف والشرع معنيان متباينان كل التباين:

أ: إن الشفاعة لدى السواد تعني أن الشفيع يستفيد من مكانته وشخصيته ونفوذه، لتغيير رأي صاحب قدرة بشأن معاقبة من هم تحت سيطرته.

والشفيع قد يرعب صاحب القدرة هذا، أو قد يستعطفه، أو قد يغير أفكاره بشأن ذنب المجرم واستحقاقه للعقاب... وأمثال هذه الأساليب.

الشفاعة بهذا المعنى هي - بعبارة موجزة - لا تعني حدوث أي تغيير في المحتوى النفسي والفكري للمجرم أو المتهم.

بل إن كل التغييرات والتحولات تتوجه نحو الشخص الذي تقدم إليه الشفاعة (تأمل بدقة).

هذا اللون من الشفاعة ليست له مكانة في المفهوم الديني على الإِطلاق.

لأن الله سبحانه وتعالى لا يخطأ حتى يتوسط الشفيع في تغيير رأيه، ولا يحمل تلك العواطف الموجودة في نفس الإِنسان كي يمكن إثارة عواطفه، ولا يهاب نفوذ شخص كي ينصاع الأوامره، ولا يدور ثوابه وعقابه حول محور غير محور العدالة.

ب: المفهوم الآخر للشفاعة يقوم على أساس تغيير موقف «المشفوع له».

أي أن الشخص المشفوع له يوفّر في نفسه الظروف والشروط التي تؤهّله للخروج من وضعه السيّء الموجب للعقاب، وينتقل - عن طريق الشفيع إلى وضع مطلوب حَسَن يستحق معه العفو والسماح.

والإِيمان بهذا النوع من الشفاعة - كما سنرى - يربّي الإنسان، ويصلح الأفراد المذنبين، ويبعث فيهم الصحوة واليقظة.

والشفاعة في الإِسلام لها هذا المفهوم السامي.

وسنرى أن كل الإِعتراضات والإِنتقادات والحملات التي توجه إلى مسألة الشفاعة، إنما تنطلق من فهم الشفاعة بالمعنى الأوّلي المنحرف، ولا تلتفت إلى المعنى الثاني المنطقي المعقول البنّاء.

هذا تفسير مقتضب للونين من ألوان الشفاعة: أحدهما «تخديري»، والآخر «بنّاء».

2 - الشّفاعة في عالم التكوين:

التّفسير الصحيح والمنطقي للشفاعة - بالمفهوم الذي مرّ بنا - له مصاديق كثيرة في عالم التكوين والخلقة، (إضافة إلى عالم التشريع).

الطاقات الأقوى في هذا العالم تنضم إلى الأضعف منها لتسيّرها نحو أهداف بنّاءة.

الشمس تشرق والأمطار تتساقط، لتفجّر القوّة الكامنة في البذرة لتحركها نحو الإنبات، ونحو شقّ جسم التربة والخروج إلى الفضاء الذي استمدت البذرة منه طاقات النموّ والتكامل.

هذه الظواهر هي في الحقيقة شفاعة تكوينية على صعيد قيامة الحياة الدنيا.

ولو انطلقنا من هذه النماذج الكونية في الشفاعة لفهم الشفاعة على صعيد التشريع، لابتعدنا عن الإِنحراف، وسنو ضح ذلك قريباً.

3 - مستندات الشفاعة:

القرآن الكريم تحدث في ثلاثين موضعاً عن مسألة «الشفاعة» (بهذا اللفظ)، وهناك إشارات اُخرى إلى هذه المسألة دون ذكر لفظها.

يمكن تقسيم آيات الشفاعة في القرآن إلى المجموعات التالية.

المجموعة الاُولى: آيات ترفض الشفاعة بشكل مطلق كقوله تعالى: ﴿انْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ﴾، وكقوله تعالى: ﴿وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ﴾.

هذه الآيات رفضت كل الطرق المتصورة لانقاذ المجرمين غير الإيمان والعمل الصالح، سواء كان طريق دفع العوض المادي، أو طريق الصداقة والخلة، أو طريق الشفاعة.

ويقول تعالى بشأن بعض المجرمين: ﴿فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾.

المجموعة الثانية: آيات تحصر الشفاعة بالله تعالى، كقوله سبحانه: ﴿مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيع﴾ و﴿قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً﴾.

المجموعة الثالثة: آيات تجعل الشفاعة متوقفة على إذن الله تعالى كقوله: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾، وقوله ﴿وَلاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عَنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أذِنَ لَهُ﴾ المجموعة الرابعة: آيات تبين شروطاً خاصة للمشفوع له.

هذه الشروط تتمثل أحياناً في رضا لله سبحانه: ﴿وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنَ ارْتَضى﴾.

وإستناداً إلى هذه الآية، شفاعة الشفعاء تشمل فقط أُولئك الذين بلغوا مرتبة «الإِرتضاء» أي القبول لدى الله سبحانه وتعالى.

ويتمثل الشرط أحياناً بالعهد عند الله: ﴿لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً﴾، والمقصود من هذا العهد الإيمان بالله ورسوله.

ويتحدث القرآن عن سلب صلاحية الإِستشفاع عن بعض الأفراد مثل المجرمين، كقوله تعالى: ﴿مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيم وَلاَ شَفِيع يُطَاعُ﴾.

ممّا تقدم يتضح أن اتخاذ العهد الإِلهي، والوصول إلى منزلة نيل رضا الله، واجتناب بعض الذنوب مثل الظلم، شروط حتمية للشفاعة.

4 - الشّروط المختلفة للشفاعة:

آيات الشفاعة تصرح أن مسألة الشفاعة في مفهوم الإِسلام مقيدة بشروط، هذه الشروط تحدد تارة الخطيئة التي يستشفع المذنب لها، وتحدّد تارة اُخرى الشخص المشفوع له، كما تقيد من جهة اُخرى الشفيع، وهذه الشروط بمجموعها تكشف عن المفهوم الحقيقي للشفاعة وعن فلسفتها.

يثمة ذنوب كالظلم مث خارجة عن دائرة الشفاعة حيث يقول القرآن (ما لِلظَّالِمَينَ مِنْ حَمِيم وَلا شَفِيع يُطَاعُ﴾ كما مرّ، ولو فهمنا «الظلم» بمعناه الواسع - كما سنرى من خلال الأحاديث - فان الشفاعة تقتصر حينئذ على المجرمين النادمين السائرين على طريق إصلاح أنفسهم، والشفاعة في هذه الحالة ستكون دعامة للتوبة وللندم (سنجيب أولئك الذين يتصورون أن التائب النادم لا يحتاج إلى الشفاعة).

كما أن الشفاعة - وطبقاً للآية 28 من سورة الانبياء - لا تشمل إلاّ أولئك المرتقين إلى درجة «الإرِتضاء» وإلى درجة الإِلتزام بالعهد الإِلهي كما مرّ أيضاً في الآية 87 من سورة مريم.

الإِرتضاء، واتخاذ العهد، يعنيان على المستوى اللغوي وكذلك ما ورد من الروايات في تفسير هذه الآيات الإِيمان بالله والحساب والميزان والثواب والعقاب، والاعتراف بالحسنات والسيئات، وبما أنزل الله، إيماناً عميقاً في الفكر، ظاهراً في العمل... إيماناً يبعد صاحبه عن صفات الظالمين الذين لا يؤمنون بأية قيمة إنسانية، ويدفعه إلى إعادة النظر في منهج حياته.

يقول تعالى: ﴿وَلَو أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحيِماً﴾، هذه الآية تجعل الاستغفار مقدمة لشفاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

ويقول: ﴿قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ، قَالَ: سَوْفَ اسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾، آثار الندم واضحة على إخوة يوسف في طلبهم من أبيهم.

ويقول سبحانه: ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْء رَحْمَةً وَعِلْمَاً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوُا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ فاستغفار الملائكة وشفاعتهم تقتصر على الأفراد المؤمنين السالكين سبيل الله.

وهنا يطرح أيضاً سؤال بشأن جدوى الشفاعة للأفراد المؤمنين السالكين سبيل الله، وسنجيب على ذلك في دراسة حقيقة الشفاعة.

وبشأن الشفعاء ذكر القرآن لهم شرطاً في قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالحَقِّ﴾.

من هنا فالمشفوع له أيضاً ينبغي أن يسلك طريق الحق في القول والعمل، كي يكون له إرتباط بالشفيع، وهذا الإِرتباط الضروري بين الشفيع يوالمشفوع له يعتبر بدوره عام بنّاءاً في تعبئة الطاقات على طريق الحق.

5 - الشّفاعة في الحديث:

في الروايات الإِسلامية تعابير كثيرة تكمل محتوى الآيات المذكورة وتوضّح ما خفي منها، من ذلك:

1 - في تفسير «البرهان» عن الإِمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) عن على بن أبي طالب (عليه السلام) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يَقُولُ: «شَفَاعَتِي لاَِهْلِالْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي...» راوي الحديث ابن أبي عمير يقول: فقُلْتُ لَهُ: يَا بْنَ رَسُولِ الله كَيْفَ تَكُونُ الشَّفَاعَةُ لاَِهْلِ الْكَبَائِر وَاللهُ يَقُولُ ﴿وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى﴾ وَمَنْ يَرْتَكِبُ الْكَبَائِرَ لاَ يَكُونُ مُرْتَضى بِهِ؟ فَقَالَ: يَا أَبَا أَحْمَدَ مَا مِنْ مُؤْمِن يَرْتَكِبُ ذَنْباً إِلاَّ سَاءَهُ ذَلِكَ وَنَدِمَ عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيٌّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كَفَى بالنَدَم تَوْبَة... وَمَنْ لَمْ يَنْدَمْ عَلىْ ذَنْب يَرْتَكِبُهُ فَلَيْسَ بِمُؤْمِن وَلَمْ تَجِبْ لَهُ الشَّفَاعَةُ وَكَانَ ظَالِماً والله تَعَالى ذِكْرُهُ يَقُولُ﴿مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَميم وَلاَ شَفيِع يُطَاعُ﴾

صدر الحديث يتضمن أن الشفاعة تشمل مرتكبي الكبائر.

لكن ذيل الحديث يوضح أن الشرط الأساسي في قبول الشفاعة هو الإِيمان الذي يدفع المجرم إلى مرحلة الندم وجبران ما فات، ويبعده عن الظلم والطغيان والعصيان.

(تأمل بدقة).

2 - في كتاب «الكافي» عن الإِمام جعفر بن محمّد الصّادق (عليه السلام) في رسالة كتبها إلى أصحابه قال: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْفَعَهُ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ عِنْدَ اللهِ فَلْيَطْلُبْ إِلَى اللهِ أَنْ يَرْضى عَنْهُ»

يتبين من سياق الرواية، أن كلام الإِمام يستهدف إصلاح الخطأ الذي وقع فيه بعض أصحاب الإِمام في فهم مسألة الشفاعة: ويرفض بصراحة مفهوم الشفاعة الخاطىء المشجع على إرتكاب الذنوب.

3 - وعن الصادق (عليه السلام) أيضاً: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بَعَثَ اللهُ الْعَالِمَ وَالْعَابِدَ، فَإِذَا وَقَفَا بَيْنَ يَدَيِ الله عَزَّ وَجَلَّ قِيلَ لِلْعَابِدِ: إِنْطَلِقْ إِلَى الْجَنَّةِ، وَقيلَ لِلْعَالِمِ: قِفْ تَشْفَعُ لِلنَّاسِ بِحُسْنِ تَأْدِيبِكَ لَهُمْ».

في هذا الحديث نجد إرتباطاً بين «تأديب العالم» و«شفاعته لمن أدّبهم» وهذا الإِرتباط يوضّح كثيراً من المسائل المبهمة في بحثنا هذا.

أضف إلى ما سبق أن في اختصاص الشفاعة بالعالم وسلبها من العابد، دلالة اُخرى على أن الشفاعة في المفهوم الإِسلامي ليست معاملةً وعقداً وتلاعباً بالموازين، بل مدرسة للتربية، وتجسيد لما مرّ به الفرد من مراحل تربوية في هذا العالم.

6 - التّأثير المعنوي للشّفاعة:

ما ذكرناه من روايات بشأن الشفاعة هو غيض من فيض، فالروايات في هذا المجال كثيرة تبلغ حدّ التواتر، وإنما اخترنا منها ما يتناسب مع بحثنا.

النووي الشافعي في شرحه لصحيح مسلم، نقل عن القاضي عياض - وهو من كبار علماء أهل السنة، - أنّ أحاديث الشفاعة متواترة.

ابن تيمية (المتوفّى 728 هـ).

ومحمّد بن عبد الوهّاب (المتوفّى 1206 هـ).

مع ما لهما من تعصّب ولجاج في مثل هذه الأُمور، يقرّان بتواتر هذه الروايات.

ثمة كتاب دراسي معروف ومتداول بين «الوهّابية» هو «فتح المجيد» للشيخ عبد الرحمن بن حسن، ينقل عن «ابن القيم» مايلي:

«الرابع: شفاعته في العصاة من أهل التوحيد الذين يدخلون النار بذنوبهم.

والأحاديث بها متواترة عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد أجمع عليها الصحابة وأهل السنة قاطبة وبدعوا من أنكرها وصاحوا به من كل جانب ونادوا عليه بالضلال ».

وقبل أن ندرس الآثار الإِجتماعية والنفسية لمسألة الشفاعة والاشكاليات الاربع حول فلسفة الشفاعة، نلقي نظرة على الآثار المعنوية لهذه المسألة في إطار آراء الموحّدين المؤمنين بالشفاعة، فمثل هذه النظرة تمهّد السبيل لدراستنا القادمة في حقل الشفاعة ومعطياتها الاجتماعية والنفسية.

اختلف علماء العقائد المسلمون في كيفية التأثير المعنوي للشفاعة.

فقال جمع يسمون «الوعيدية»، وهم المؤمنون بخلود مرتكبي الكبائر في جنهم: إن الشفاعة ليس لها أثر على إزالة آثار الذنوب، بل تأثيرها يقتصر على زيادة الثواب وعلى التكامل المعنوي.

و«التفضيلية» وهم من يعتقد بعدم خلود مرتكبي الكبائر في جهنم، فيذهبون إلى أن الشفاعة تشمل المذنبين، وتؤثر في إسقاط العقاب عنهم.

أما «الخواجة نصير الدين الطوسي(رحمه الله)» فيؤيد كلا الأمرين في كتابه «تجريد الاعتقاد» ويرى وجود كلا الأثرين للشفاعة.

«العلاّمة الحلي(رحمه الله)» شرح عبارة الطوسي في كتابه «كشف المراد» ولم يردّ عليها بل أورد شواهد عليها.

لو أخذنا بنظر الاعتبار ما مرّ بنا بشأن معنى الشفاعة لغوياً ومقارنتها بالشفاعة التكوينيّة، لما ترددنا في صحة ما ذهب إليه المحقق الطوسي.

فمن جهة، ثمة رواية معروفة عن الإِمام الصادق (عليه السلام) هي: «مَا مِنْ أَحَد مِنَ الأَوّلَيِنَ وَالاْخِرِينَ إِلاَّ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى شَفَاعَةِ محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

وإستناداً إلى هذه الرواية، يحتاج إلى الشفاعة كل النّاس، حتى التائبون المغفور لهم، وفي مثل هذه الحالة لابدّ أن تكون الشفاعة ذات تأثيرين، في الحطّ من الذنوب، وفي علوّ المنزلة.

أما الروايات التي تذهب إلى عدم حاجة الصالحين للشفاعة فهي تنفي ذلك النوع من الشفاعة الخاص بالمجرمين والمذنبين.

ومن جهة اُخرى ذكرنا أن الشفاعة تعني انضمام الفرد الأشرف والأقوى إلى الفرد الأضعف لمساعدة هذا الضعيف، وهذه المساعدة قد تكون لزيادة نقاط القوّة، وقد تكون لإزالة نقاط الضعف.

في الشفاعة التكوينية نشهد هذين اللونين من الشاعة في مسيرة حركة التكامل والنمو، فإنّ الكائنات الأضعف تحتاج إلى عوامل أقوى لإزالة عوامل التخريب تارة (كحاجة النباتات إلى نور الشمس لإبادة الآفات)، وتارة اُخرى لزيادة نقاط القوّة وسرعة التطور (كحاجة النباتات إلى نور الشمس من أجل النموّ)، وهكذا الطالب يحتاج إلى الاُستاذ لإصلاح أخطائه من جهة، ولزيادة معلوماته من جهة اُخرى.

كل ذلك يدلّ على أن للشفاعة أثرين، ولا تقتصر على دائرة إزالة آثار الذنب والإثم (تأمل بدقّة).

ممّا تقدم نفهم أن التائبين بحاجة أيضاً إلى الشفاعة مع علمنا بأن التوبة وحدها كافية لغفران الذنوب، وذلك لسببين:

1 - التائبون بحاجة إلى الشفاعة لزيادة مكانتهم المعنوية، ولتقدمهم في مضمار التكامل والإِرتقاء، وان كان الغفران يتحقق بالتوبة.

2 - ثمة خطأ وقع فيه كثيرون في فهم التوبة، إذ تصوروا أنّ التوبة من الذنب قادرة على إرجاع الإِنسان إلى حالة ما قبل ارتكاب الذنب، بينماالتوبة ليستـكما ذكرنا في موضعه - سوى مرحلة أُولى، إنها كالدواء الذي يقطع عوارض المرض، وانقطاع العوارض لا يعني عودة الإنسان إلى حالته الطبيعية، بل يعني انتقالة إلى حالة نقاهة يحتاج خلالها إلى تقوية بنيته الجسمية، ليعود بعد مدة إلى مرحلة ما قبل المرض.

بعبارة اُخرى: للتوبة مراحل، والندم على الذنب والعزم على التطهر في المستقبل هو المرحلة الاُولى للتوبة.

والمرحلة النهائية تتحق حين يعود التائب إلى حالة ما قبل الذنب من كل النواحي.

وفي هذه المرحلة تكون شفاعة الشافعين ذات أثر وعطاء.

أفضل شاهد على هذا ما ورد في القرآن وذكرناه من قبل بشأن استغفار الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) للتائبين، وتوبة إخوة يوسف واستغفار يعقوب لهم، وأوضح من كل ذلك استغفار الملائكة للصالحين والمصلحين الوارد في الآيات المذكورة آنفاً.

(تأمل بدقّة)!.

7 - فلسفة الشّفاعة:

مرّ بنا فيما سبق «مفهوم» الشّفاعة و«أسانيدها»، ونستطيع من ذلك أن نفهم بسهولة فلسفة الشفاعة على الصعيد الإِجتماعي والنفسي.

وبشكل عام وإنطلاقاً من مفهوم الشفاعة نستطيع أن نتلمس الآثار التالية في المؤمنين بالشفاعة.

«مكافحة روح اليأس» من أهم آثار الشفاعة في نفس المعتقدين بها.

مرتكبو الجرائم الكبيرة يعانون من وخز الضمير، كما يشعرون بيأس من عفو الله، ولذلك لا يفكّرون بالعودة ولا بإعادة النظر في طريقة حياتهم الآثمة.

وقد يدفعهم المستقبل المظلم إلى التعنت والطغيان، وإلى التحلل من كل قيد تماماً، كالمريض اليائس من الشفاء الذي يتحلل من أي نظام غذائي، لإِعتقاده بعدم جدوى التقيد بنظام.

قلق الضمير الناتج عن هذه الجرائم قد يؤدي إلى اختلالات نفسية، وإلى تحفيز الشعور بالإِنتقام من المجتمع الباعث على تلوّثه.

وبذلك يتبدل المذنب إلى عنصر خطر، وإلى مصدر قلق اجتماعي.

الإِيمان بالشفاعة يفتح أمام الإِنسان نافذة نحو النور، ويبعث فيه الأمل بالعفو والصفح، وهذا الامل يجعله يسيطر على نفسه، يعيد النظر في مسيرة حياته، بل ويشجعه على تلافي سيئات الماضي.

والإِيمان بالشفاعة يحافظ على التعادل النفسي والروحي للمذنب، ويفسح الطريق أمامه إلى أن يتبدل إلى عنصر سالم صالح.

من هنا يمكن القول أن الإِهتمام بالشفاعة بمعناها الصحيح عامل رادع بنّاء، قادر أن يجعل من الفرد المجرم المذنب فرداً صالحاً.

وانطلاقاً من هذا الفهم نجد أن مختلف قوانين العالم وضعت فسحة أمل أمام المحكومين بالسجن المؤبّد باحتمال العفو بعد مدة إن أصلحوا أنفسهم، كي لا يتسرب اليأس إلى نفوسهم بذلك ويتبدّلوا إلى عناصر خطرة داخل السجن أو يصابون باختلالات نفسية.

8 - شروط «توفّر الشّفاعة»:

الشفاعة بمعناها الصّحيح لها قيود وشروط متعددة الجوانب، كما ذكرنا.

من هنا فالمؤمنون بهذا المبدأ لابدّ أن يسعوا لتوفير شروط الشّفاعة كي يشملهم عطاؤها، وأن يجتنبوا الذنوب التي تقضي على كل أمل في الشفاعة كالظلم، وأن يستأنفوا حياة جديدة قائمة على أساس تغيير عميق في أنفسهم وأن يتوبوا من الذنب أو يهمّوا بالتوبة على الأقل من أجل بلوغ درجة «الارتضاء» واتخاذ «العهد الإِلهي» (بالتّفسير المذكور).

عليهم أن يكفوا عن مخالفة الأحكام والقوانين الإِلهية، أو يقللوا من هذه المخالفة ما أمكنهم، ويعمقوا في أنفسهم الإِيمان بالله واليوم الآخر.

من جهة اُخرى لابدّ لنيل شفاعة «الشفيع»، أن يسعى الفرد لإِيجاد نوع من التشابه والسنخية وإن كان ضعيفاً بينه وبين الشفيع.

وكما أن «الشّفاعة التّكوينية» لا تتمّ إلاّ بوجود نوع من السّنخية والتسليم والاستعداد في الموجود الأضعف، كذلك الشفاعة التشريعية لا تتحقق إلاّ بتوفر مثل هذه القابليّات، (تأمل بدقّة).

وبهذا يتضح بجلاء أن الشفاعة بمعناها الصحيح لها دور فعّال في تغيير وضع المجرمين وإصلاحهم.

9 - شبهات حول مسألة الشفاعة:

ذكرنا أن بين «الشفاعة» في مفهومها المنحرف و«الشفاعة» في مفهومها الإِسلامي الصحيح بوناً شاسعاً.

المفهوم الأوّل يقوم على أساس تغيير وجهة نظر «المستشفَع»، والآخر يدور حول محور التغييرات المختلفة في وضع المستشفع له.

واضح أن الشفاعة بمفهومها الأول مرفوضة لأنها تقتل روح السعي والمثابرة في النفوس... وتشجع على ارتكاب الذنوب... وتعتبر انعكاساً عن المجتمعات المتخلفة والإِقطاعية... وتتضمن أكثر من ذلك نوعاً من الشرك والإنحراف عن خط التوحيد.

لا شك أن الإِنسان المسلم يبتعد عن خط التوحيد لو اعتقد بإمكان تقديم «وساطة» إلى اللّه كما تقدم «الوساطات»، إلى أصحاب النفوذ في هذه الدنيا.

لأن مثل هذا الفرد قد اعتقد بشكل غير مباشر بإمكان تغيير علم الله! وبإمكان خفاء أمر من أمور «المستشفِع» على الله! أو بوجود مصدر يمكن أن يطفىء الإِنسان به غضب الله أو يكسب به ودّه ورضاه!، أو بحاجة الله إلى مكانة بعض عباده وبسبب احتياجه اليهم يقبل شفاعتهم.

أو أنه تعالى يقبل شفاعتهم بسبب خوفه من نفوذهم!! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

كل هذه المعاني تبعدنا من أصل التوحيد وتؤدي بنا إلى السقوط في وادي الشرك... إنها المفهوم السلبي للشفاعة والسائد لدى العرف العام.

أما الشفاعة بمعناها الصحيح الذي ذكرناه، فلا تنطوي على هذه العيوب، بل إنها أكثر من ذلك تصلح العيوب، وتعمّق النقاط الإِيجابية في الكائن البشري.

هذا النوع من الشفاعة لا يشجع على إرتكاب الذنب، بل يدفع إلى ترك الذنوب.

لا يدعو إلى التقاعس والتماهل، بل يبعث في الإِنسان روح الأمل التي يستتبعها عادة تصعيد الإِرادة لتلافي أخطاء الماضي.

هذه الشفاعة لا ترتبط بالمجتمعات المتخلّفة، بل هي وسيلة تربوية فعّالة لإصلاح المجرمين والمذنبين والمعتدين.

ليست هذه الشفاعة بشرك، بل هي عين التوحيد والتأكيد على التوجه إلى الله والإِستمداد من صفاته وإذنه وأمره.

ولمزيد من التوضيح نتحدث أكثر عن مسألة الشفاعة والتوحيد.

10 - الشّفاعة والتّوحيد:

الفهم الخاطيء لمسألة الشّفاعة آثار اعتراض فئتين على ما بينهما من تضاد.

الفئة الاُولى: اعترضت على الشفاعة من منطلق مادي واعتبرتها عاملاً للتخدير ولإماتة روح السّعي والمثابرة، وقد أجبنا على اعتراضات هذه الفئة فيما سبق.

اعترضت على الشفاعة من منطلق السلفية، واعتبرتها شركاً وانحرافاً عن خط التوحيد، ويمثل هذه الفئة «الوهابيون» ومن لفّ لفّهم.

والإِجابة على اعتراضات الوهابيين وإن كانت تحتاج إلى إطالة وخروج عن طريقة التّفسير إلاّ أنها ضرورية لأسباب عديدة.

يلابد من الإِلتفات أو إلى أن الحركة الوهّابيّة، التي ظهرت خلال القرنين الإخيرين في الجزيرة العربية على يد «محمّد بن عبد الوهّاب» لم تتجه في أفكارها المتطرفة الجافة إلى معارضة مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) فقط، بل اصطدمت بمعظم المسلمين من أهل السنة أيضاً.

محمّد بن عبد الوهاب (المتوفّي 1206 هـ) استقى أفكاره من «ابن تيمية» (أحمد بن عبد الحليم الدمشقي المتوفى سنة 728 هـ).

أي قبل أربعة قرون تقريباً من ظهور الوهّابية، ويعتبر المنظّر لهذه الحركة.

استطاع عبد الوهّاب خلال الأعوام (1160 - 1206 هـ) بالتعاون مع الحكام المحليين أن ينشر دعوته بين القبائل البدوية المتنقّلة في الجزيرة العربية ويبثّ فيهم تعصباً أعمى باسم الدفاع عن التوحيد ومكافحة الشرك، وعبّد البدو والمتعصبين من أتباعه على طريق قمع معارضيه، واستطاع بذلك أن يكتسب قدرة سياسية ويسيطر بشكل مباشر وغير مباشر على الحكم، وأراق من أجل ذلك دماة كثيرة من المسلمين في أرض الجزيرة العربية وخارجها.

في سنة 1216 هـ (عشر سنوات بعد وفاة مؤسس الحركة الوهّابية) هاجمت جماعة من الوهّابيين مدينة كربلاء قادمة من صحراء الجزيرة العربية، واستغلوا فرصة سفر أهالي المدينة إلى النجف الأشرف بمناسبة عيد الغدير، فدخلوا المدينة وقاموم بتخريب وهدم مرقد سيد الشهداء الحسين بن علي (عليه السلام) وسائر المراقد الشريفة في هذه المدينة، ونهبوا ما فيها من أبواب ذهبية ونفائس، وقتلوا ما يقرب من خمسين شخصاً عند ضريح الحسين، وخمسمائة شخص في صحن الروضة المشرفة، كما قتلوا أعداداً كبيرة في سائر أنحاء المدينة، حتى بلغ عدد المقتولين في ذلك الهجوم الوهابي خمسة آلاف إنسان، ولم يسلم منهم حتى الشيوخ والعجائز والأطفال، كما نهبوا كثيراً من البيوت.

في عام 1344 أفتى فقهاء المدينة الخاضعون لجهاز الحكم الوهابي بهدم قبور أئمّة الإِسلام وأولياء الله الصالحين، ونفذت هذه الفتوى في اليوم الثامن من شوّال من السنة المذكورة، وهمّ المنفذون أن يهدموا قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً، لولا تراجعهم أمام صيحات اعتراض المسلمين.

أتباع محمّد بن عبد الوهاب يتميزون على العموم بالخشونة والتصلّب والسطحية واللجاج والبعد عن المنطق والتعقّل وقد حصروا الإِسلام - عمداً أو غفلة - في إطار مكافحة عدد من الظواهر كالشفاعة وزيارة القبور والتوسل، وبذلك أبعدوا أتباعهم ومن خضع لسيطرتهم عن المسائل الإِسلامية الحياتية، وخاصة فيما يرتبط بالعدالة الإِجتماعية، ومكافحة السيطرة الإِستعمارية، والتصدي للثقافة الماديّة وللمدارس الإِلحادية.

لذلك لا تجد في أوساط الوهابيين حديثاً عن هذه المسائل، بل تسود أجواءهم حالة فظيعة من الغفلة والركود.

نعود إلى رأي هذه الفئة بشأن الشفاعة، هؤلاء يقولون: لا يحق لأحد أن يستشفع برسول الله، وأن يقول: «يا محمّد اشفع لي عند الله» لأن الله سبحانه يقول: ﴿وأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً﴾.

وفي رسالة «كشف الشبهات» لمحمّد بن عبد الوهاب نقرأ مايلي:

«فإن قال أن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أعطى الشفاعة وأطلبه ممّا أعطاه الله.

فالجواب أن الله أعطاه الشفاعة ونهاك عن هذا وقال: ﴿فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً﴾ وأيضاً فإن الشفاعة أعطاها غير النّبي، فصح أن الملائكة يشفعون والأولياء يشفعون... أتقول أن الله أعطاهم الشفاعة فاطلبها منهم؟ فإن قلت هذا رجعت إلى عبادة الصالحين».

ويقول محمّد بن عبد الوهاب في رسالة أربع قواعد ما حاصله: إن الخلاص من الشرك يكون بمعرفة أربع قواعد.

الاُولى: انّ الكفار الذين قاتلهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مقرّون بأن الله تعالى هو الخالق الرازق المدبر... لقوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ...﴾.

الثّانية: إنّهم يقولون ما دعونا الأصنام وتوجهنا إليهم إلا لطلب القرب والشفاعة...﴿وَيَقُولُونَ هؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ﴾.

الثّالثة: إنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ظهر على قوم متفرقين في عبادتهم، فبعضهم يعبد الملائكة، وبعضهم الأنبياء الصالحين، وبعضهم الأشجار والأحجار، وبعضهم الشمس والقمر، فقاتلهم ولم يفرق بينهم.

الرّابعة: إن مشركي زماننا أغلظ شركاً من الأولين، لأن أُولئك يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة، هؤلاء شركهم في الحالتين لقوله تعالى: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا الله مُخْلِصينَ...﴾.

ومن العجيب أن الوهابيين تبلغ بهم الجرأة في تكفير المسلمين بحيث يبيحون نهب أموال المسلم وسفك دمه بسهولة، وقد فعلوا ذلك في تاريخهم مراراً.

يقول الشيخ «سليمان بن لحمان» في كتابه «الهدية السنية»:

«إن الكتاب والسنّة دلاّ على أن من جعل الملائكة والأنبياء أو ابن عباس أو أبا طالب أو... وسائط بينهم وبين الله ليشفعوا لهم عند الله لأجل قربهم إلى الله - كما يفعل عند الملوك - إنه كافر مشرك حلال الدم والمال! وان قال أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أن محمّداً رسول الله وصلّى وصام»!!.

ومع هذا الإِفتاء يتضح حال المسلمين في جميع أقطار العالم الإِسلامي الذين يستشفعون بهم، اقتداء بكتاب الله وسنّة نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم).

روح البطش والسفك واللجاجة في هؤلاء لا تخفى على أحد، وهكذا جهلهم بالمسائل الإِسلامية والقرآنية.

نظرة على منطق الوهابيين في حقل الشفاعة:

وهكذا يظهر ممّا نقلنا عن مؤسس الحركة الوهابية «محمّد بن عبد الوهاب» أن اتهام الوهابيين بالشرك للمؤمنين بالشفاعة يستند إلى مسألتين:

1 - التشابه بين المؤمنين بشفاعة الأنبياء والصالحين، وبين المشركين في عصر الجاهلية.

2 - نهي القرآن عن عبادة غير الله وعن دعوة فرد مع الله: ﴿فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً﴾، والإِستشفاع نوع من العبادة.

بالنسبة للمسألة الاُولى ، ارتكب الوهابية خطأ فظيعاً، وذلك للأسباب التالية: يأوّ: القرآن أقرّ منزلة الشفاعة بصراحة لجمع من الأنبياء والصالحين والملائكة كما مرّ، لكنه قيّدها بإذن الله.

وليس من المعقول إطلاقاً أن يكون الله قد نهى عن الإِستشفاع المشروط بإذن الله بمن قد منحهم هو سبحانه هذه المنزلة.

وصرّح القرآن بطلب إخوة يوسف من أبيهم أن يستغفر لهم، وهكذا صرّح بطلب الصحابة إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يستغفر لهم أيضاً.

أليست هذه من المصاديق الواضحة لطلب الشفاعة؟! إن الإِستشفاع برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعبارة: «اشفع لنا عند الله» هي نفسها عبارة اخوة يوسف إذ قالوا لأبيهم: ﴿يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا﴾ كيف يجرأ هؤلاء على إلقاء تهمة الشرك على من يؤمن بما يصرّح به القرآن، بل ويستبيحون دمه وماله؟!

لو كان هذا العمل شركاً، فلم لم ينه يعقوب بنيه عن ذلك.

ثانياً: لا يوجد أدنى شبه بين «عبدة الأصنام» و«الموحّدين المؤمنين بالشفاعة بإذن الله»، لأن الوثنيين كانوا يعبدون الأصنام ويتخذونها شفعاء، بينما المسلمون المؤمنون بالشفاعة لا تخطر في ذهنهم عبادة الشفعاء، بل يستشفعون بهم إلى الله، وطلب الشفاعة لا إرتباط له بمسألة العبادة كما سنبيّن.

عَبَدة الأصنام كانوا يتعجبون من عبادة الإِله الواحد الأحد: ﴿أَجَعَلَ الاْلِهَةَ إِلهاً وَاحِداً إِنَّ هذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾.

الوثنيون كانوا يجعلون الوثن في منزلة الله: ﴿تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلال مُبِين إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.

الوثنيون كانوا يعتقدون بتأثير الأوثان على حياتهم ومصيرهم ووجودهم، كما تذكر كتب التاريخ، والمسلمون المؤمنون بالشفاعة يعتقدون بانفراد الله في يالتأثير، ولا يرون لموجود آخر غير الله استقلا في التأثير.

والمقارنة بين الرؤيتين مقارنة جاهلة مجافية للمنطق.

يأما بشأن المسألة الثانية، علينا أوّ أن نفهم معنى «العبادة» لو فسّرنا العبادة بأنها كل لون من ألوان الخضوع والاحترام، لكان ذلك يعني حرمة الاحترام والخضوع لأحد غير الله، وهذا ما لا يقرّه مسلم.

ولو فسّرنا العبادة أنها كل ألوان الطلب، فهذا يعني أن التقدم بالطلب من أية جهة هو شرك، وهذا يخالف ضروريات العقل والدين.

كما أن العبادة لا يمكن فهمها على أنها كل لون من ألوان اتباع فرد لفرد آخر، فاتباع الأفراد لمسؤوليهم ورؤسائهم في المؤسسات والتنظيمات الإِجتماعية من أُولى ضروريات الحياة البشرية، كما أن اتّباع الأنبياء وأئمّة الدين من الواجبات الحتمية للمتدينين.

من هنا فالعبادة لا تعني كل ذلك، بل هي الحدّ الأعلى للخضوع والتواضع المعبّرين عن الإِرتباط المطلق والتسليم بلا منازع للمعبود، وإيكال كل عواقب الأُمور إليه.

وهل في طلب الشفاعة من الشفعاء أثر من الآثار المذكورة للعبادة.

أمّا بشأن النهي عن دعوة أحد سوى الله فلا يعني النهي عن نداء الأفراد، كأن نقول: يا عليّ ويا حسن ويا أحمد، ولا يعني النهي عن الاستعانة بالأفراد، لأن التعاون أحد الأركان الأساسية للحياة الإِجتماعية وقد عمل به الأنبياء والأولياء كافة، ولم يرفضه الوهّابيون أنفسهم.

أمّا الأمر الذي يمكن الاعتراض عليه فهو ما أوضحه «ابن تيمية» في رسالة «زيارة القبور» إذ قال ما حاصله: «مطلوب العبد إن كان ممّا لا يقدر عليه إلاّ الله فسائله من المخلوق مشرك من جنس عباد الملائكة والتماثيل ومن اتّخذ المسيح وأُمّه إلهين، مثل أن يقول لمخلوق حي أو ميت: اغفر ذنبي أو انصرني على عدوي أو اشف مريضي أو عافني أو عاف أهلي أو دابتي، أو يطلب منه وفاء دينه من غير جهة معينة أو غير ذلك.

وإن كان ممّا يقدر عليه العبد فيجوز طلبه منه في حال دون حال، فإنّ مسألة المخلوق قد تكون جائزة وقد تكون منهياً عنها قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلى رَبّكَ فَارْغَبْ﴾ وأوصى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ابن عباس: إذا سألت فاسئل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله.

وأوصى طائفة من أصحابه أن لا يسألوا النّاس شيئاً، فكان سوط أحدهم يسقط من كفه فلا يقول لأحد ناولني إياه.

وقال: فهذه المنهي عنها، والجائزة طلب دعاء المؤمن لأخيه».

نحن أيضاً نقول: من الشرك أن يطلب الإِنسان من أحد شيئاً يختص به الخالق، ومن الشرك أن يتجه الإِنسان في ذلك الطلب إلى فرد يعتبره قادراً بشكل مستقل عن تلبية ذلك الطلب.

أما إذا طلب الإِنسان من أحد شفاعة منحها له الله، فما ذلك بشرك، بل هو عين الإِيمان والتوحيد، ويشهد على ذلك كلمة «مع» في قوله تعالى: ﴿فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً﴾ التي تفيد أن المنهي عنه هو دعوة شخص ينعتبره في منزلة الله، ونعتبره مصدراً مستق في التأثير.

(تأمل بدقّة).

هدفنا من التأكيد على هذا الموضوع، هو أن ما اعتراه من مسخ وتحريف وفّر الفرصة لأعداء الدين كي يطعنوا في المقدسات الدينية، كما أدّى إلى ظهور تفسيرات واستنتاجات خاطئة لدى بعض المجموعات الإِسلامية، ممّا جرّ بدوره إلى تفرقة صفوف المسلمين.

والفهم الصحيح للشفاعة يؤدي كما رأينا إلى سموّ أخلاق المجتمع وتكاملها.

وإلى إصلاح الأفراد الفاسدين، كما يؤدي إليه قطع دابر الطعانين، وإلى إحلال الوحدة بين المسلمين.

نأمل من العلماء والمفكرين الإِسلاميين أن يتعمّقوا في تحليل هذه المسألة قرآنياً ومنطقياً، كي يسدّوا الطريق أمام طعن أعداء الإِسلام ويساهموا في رصّ الصفوف.