الآيات 44 - 46

الآيات من (44) إلى (46) من سورة البقرة

﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَـبَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ* وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَو ةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَـشِعِينَ* الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُّلَـقُواْ رَبِّهِمْ وَأَنَّهُـمْ إِلَـيْـهِ رَ جِعُونَ﴾

التّفسير

﴿أَتَاْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾؟!

هذا السّؤال الإِستنكاري - وإن كان موجهاً إلى بني إسرائيل كما يتبين من سياق الآيات السابقة والتالية - له حتماً مفهوم واسع يشمل الآخرين أيضاً.

قال «الطّبرسي(رحمه الله)» في «مجمع البيان»: هذه الآية خطاب لعلماء اليهود.

وبّخهم الله تعالى على ما كانوا يفعلون من أمر النّاس بالإِيمان بمحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وترك أنفسهم في ذلك.

وقال أيضاً: كان علماء اليهود يقولون لأقربائهم من المسلمين اثبتوا على ما أنتم عليه ولا يؤمنون هم.

لذلك كانت الآية الاُولى من الآيات التي يدور حولها بحثنا تحمل توبيخاً لهذا العمل: ﴿أَتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ، وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ، أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾؟!

يمنهج الدعاة إلى الله يقول على أساس العمل أوّ ثم القول.

فالدّاعية إلى الله يبلّغ بعمله قبل قوله، كما جاء في الحديث عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) : «كُونُوا دُعَاةَ النَّاسِ بِأَعْمَالِكُمْ وَلاَ تَكُونُوا دُعَاةً بِأَلْسِنَتِكُمْ».

التأثير العميق للدعوة العملية يأتي من قدرة مثل هذه الدعوة على فتح منافذ قلب السامع، فالسامع يثق بما يقوله الداعية العامل، ويرى أن هذا الداعية مؤمن بما يقول وأن ما يقوله صادر عن القلب.

والكلام الصادر عن القلب ينفذ إلى القلب.

وأفضل دليل على إيمان القائل بما يقوله، هو العمل بقوله قبل غيره، كما يقول علي (عليه السلام) : «أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي وَاللهِ مَا أَحُثُّكُمْ على طَاعَة إِلاَّ وأَسْبِقُكُمْ إلَيْهَا، وَلاَ أَنْهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَة إِلاَّ وَأَتَنَاهَىْ قَبْلَكُمْ عَنْهَا».

وفي حديث عن الإِمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) : «مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَاباً ييَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ وَصَفَ عَدْ وَعَمِلَ بِغَيْرِهِ».

علماء اليهود كانوا يخشون من انهيار مراكز قدرتهم وتفرّق عامة النّاس عنهم، إن اعترفوا برسالة خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولذلك حرّفوا ما ورد بشأن صفات نبي الإِسلام في التوراة.

والقرآن يحث على الاستعانة بالصبر والصّلاة للتغلب على الأهواء الشخصية والميول النفسية، فيقول في الآية التالية: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ﴾ثم يؤكد أن هذِهِ الاستعانة ثقيلة لا ينهض بعبئها إلا الخاشعون: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرةٌ إِلاَّ على الْخَاشِعِينَ﴾.

وفي الآية الأخيرة من هذه المجموعة وصف للخاشعين: ﴿اَلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾.

كلمة «يَظُنُّونَ» من مادة «ظنّ» وقد تأتي بمعنى اليقين.

وفي هذا الموضع تعني الإِيمان واليقين القطعي.

لأن الإِيمان بلقاء الله والرجوع إليه، يحيي في قلب الإِنسان حالة الخشوع والخشية والإِحساس بالمسؤولية، وهذا أحد آثار تربية يالإِنسان على الإِيمان بالمعاد، حيث تجعل هذه التربية الفرد مائ دوماً أمام مشهد المحكمة الكبرى، وتدفعه إلى النهوض بالمسؤولية وإلى الحق والعدل.

ويحتمل أن يكون استعمال «الظن» في الآية للتأكيد، أي أن الإِنسان لو ظنّ بالآخرة فقط فظنه كاف لأن يصده عن ارتكاب أي ذنب.

وهو تقريع لعلماء اليهود وتأكيد على أنهم لا يمتلكون إيماناً باليوم الآخر حتى على مستوى الظن، فلو ظنوا بالآخرة لأَحسّوا بالمسؤولية، وكفّوا عن هذه التحريفات!

بحثان

1 - ما هو لقاء الله؟:

عبارة «لقاء الله» وردت مراراً في القرآن الكريم، وتعني بأجمعها الحضور على مسرح القيامة.

من البديهي أن المقصود بلقاء الله ليس هو اللقاء الحسّي، كلقاء أفراد البشر مع بعضهم، لأن الله ليس بجسم، ولا يحده مكان، ولا يرى بالعين.

بل المقصود مشاهدة آثار قدرة الله وجزائه وعقابه ونعمه وعذابه على ساحة القيامة، كما ذهب إلى ذلك جمع من المفسرين.

أو إن المقصود الشهود الباطني والقلبي، لأن الإِنسان يصل درجة كأنه يرى الله ببصيرته أمامه، بحيث لا يبقى في نفسه أي شك وترديد.

هذه الحالة قد تحصل للأفراد نتيجة الطّهر والتقوى والعبادة وتهذيب النفس في هذه الدنيا.

وفي «نهج البلاغة» نقرأ: أن «ذعلب اليماني» وهو من فضلاء أصحاب الإِمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، سأل علياً هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟

أجابه علي: أَفَأَعْبُدُ مَا لاَ أَرى؟!

وحين طلب ذعلب مزيداً من التوضيح قال الإِمام: «لاَ تُدْرِكُهُ الْعُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الْعَيَانِ، وَلَكِنْ تُدْرِكُهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الاِْيِمَانِ».

هذا الشهود الباطني ينجلي للجميع يوم القيامة، ولا يبقى أحد إلاّ وقد آمن إيماناً قاطعاً، لوضوح آثار عظمة الله وقدرته في ذلك اليوم.

2 - سبيل التغلب على الصعاب:

ثمة منطلقان أساسيان للتغلب على الصعاب والمشاكل، أحدهما داخلي، والآخر خارجي.

أشارت الآية إلى هذين المنطلقين بعبارة «الصبر» و«الصلاة».

فالصبر هو حالة الصمود والإِستقامة والثبات في مواجهة المشاكل، والصلاة هي وسيلة الإِرتباط بالله حيث السندُ القويّ المكين.

كلمة «الصبر» فسرت في روايات كثيرة بالصوم، لكنها لا تنحصر حتماً.

بل الصوم أحد المصاديق الواضحة البارزة للصبر.

لأن الإِنسان يحصل في ظل هذه العبادة الكبرى على الإِرادة القوية والإِيمان الراسخ والقدرة على التحكم في الميول والرغبات.

روى بعض المفسرين في تفسير هذه الآية: أن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا أحزنه أمر استعان بالصلاة والصوم.

وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) أنه قال: «مَا يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ غَمٌّ مِنْ غُمُوم الدُّنْيَا أَنْ يَتَوَضَّأَ ثُمَّ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ فَيَرْكَعَ رَكْعَتَينِ يَدْعُو اللهَ فِيهِمَا، أَمَا سَمِعْتَ اللهَ تَعَالى يَقُولُ: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ».

التوجه إلى الصلاة والتضرّع إلى الله سبحانه يمنح الإِنسان طاقة جديدة تجعله قادراً على مواجهة المشاكل.

وفي كتاب «الكافي» عن الصادق (عليه السلام) : «كَانَ عَلِيٌّ (عليه السلام) إِذَا هَالَهُ أمْرٌ فَزَعَ إِلىَ الصّلاَةِ ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الاْيَةَ: وَاسْتَعينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ».

نعم، الصلاة تربط الإِنسان بالقدرة اللامتناهية التي لا يقهرها شيء.

وهذا الإِحساس يبعث في الإِنسان قوّة وشهامة على تحدّي المشاكل والصعاب.