الآيات 41 - 43
الآيات من (41) إلى (43) من سورة البقرة
﴿وَءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِـمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِر بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِـايـتِى ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّـىَ فَاتَّقُونِ* وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَـطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنْتُم تَعْلَمُونَ *وَأَقِيمُواْ الصَّلَو ةَ وَءَاتُواْ الزَّكَو ةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّ كِعِينَ﴾
سبب النّزول
ذكر بعض المفسرين العظام رواية عن الإمام محمّد بن علي الباقر (عليه السلام) : في سبب نزول هذه الآية قال: «كَانَ حَيُّ بن أَخْطَبَ وَكَعْبُ بْنُ أَشْرَفَ وَآخَرُونَ مِنَ الْيَهُودِ، لَهُمْ مَأْكَلَة عَلَى الْيَهُودِ في كُلِّ سَنَة، فَكَرِهُوا بُطْلاَنَهَا بِأَمْرِ النَّبِيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فَحَرَّفُوا لِذَلِكَ آيَات مِنَ التَّوْرَاةِ فِيهَا صِفَتُهُ وَذِكْرُهُ فَذَلِكَ الَّثمَنُ الَّذي أُرِيدَ فِي الاْيَةِ».
التّفسير
جشع اليهود:
الآيات المذكورة أعلاه تتطرق إلى تسعة من بنود العهد الذي أخذه الله على بني إسرائيل.
يقول تعالى: ﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُم﴾، فالقرآن مصدق لما مع اليهود من كتاب.
أي أن البشائر التي زفتها التوراة والكتب السماوية الاُخرى بشأن النّبي الخاتم، والأوصاف التي ذكرتها لهذا النّبي والكتاب السماوي تنطبق على محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وعلى القرآن المنزل عليه.
فلماذا لا تؤمنون به؟!
ثمّ يقول سبحانه: ﴿وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِر بِهِ﴾ أي - لا عجب أن يكون المشركون والوثنيون في مكة - كفّاراً بالرسالة، بل العجب في كفركم، بل في كونكم روّاداً للكفر، وسباقين للمعارضة.
لأنكم أهل الكتاب، وكتابكم يحمل بشائر ظهور هذا النّبي، وكنتم لذلك تترقبون ظهوره.
فما عدى ممّا بدا؟ ولماذا كنتم أول كافر به؟!.
إنه تعنتهم الذي لولاه لكانوا أول المؤمنين برسالة النّبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم).
المقطع الثالث من الآية يقول: ﴿وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِي﴾.
يآيات الله، لا ينبغي - دون شك - معاوضتها، بأي ثمن، قلي كان أم كثيراً.
وفي تعبير هذه الآية إشارة إلى دناءة هذه المجموعة من اليهود، التي تنسى كل إلتزاماتها من أجل مصالحها التافهة.
هذه الفئة، التي كانت قبل البعثة من المبشرين بظهور نبي الإِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وبكتابه السماوي، أنكرت بشارات التوراة وحرفتها، حين رأت مصالحها معرضة للخطر، وعلمت أن مكانتها الإِجتماعية معرضة للإنهيار عند انكشاف الحقيقة للناس.
في الواقع، لو اُعطيت الدنيا بأجمعها لشخص ثمناً لإِنكار آية واحدة من يآيات اللّه، لكان ثمناً قلي، لأنّ هذه الحياة فانية، والحياة الاُخرى هي دار البقاء والخلود.
فما بالك بإنسان يفرّط بهذه الآيات الإِلهية في سبيل مصالحه التافهة؟!
في المقطع الرابع تقول الآية: ﴿وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾، والخطاب موجّه إلى زعماء اليهود الذين يخشون أن ينقطع رزقهم، وأن يثور المتعصبون اليهود ضدّهم، وتطلب منهم أن يخشوا الله وحده، أي أن يخشوا عصيان أوامره سبحانه.
في البند الخامس من هذه الأوامر ينهى الله سبحانه عن خلط الحق بالباطل ﴿وَلاَ تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ﴾.
وفي البند السادس ينهى عن كتمان الحق: ﴿... وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
كتمان الحق، مثل خلط الحق بالباطل ذنب وجريمة، والآية تقول لهم: قولوا الحق ولو على أنفسكم، ولا تشوهوا وجه الحقيقة بخلطها بالباطل وإن تعرضت مصالحكم الآنية للخطر.
البند السابع والثامن والتاسع من هذه الأوامر يبينه قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾.
البند الأخير يأمر بالصلاة جماعة، غير أن «الركوع» هو الذي ذكر دون غيره من أجزاء الصلاة، ولعل ذلك يعود إلى أنّ صلاة اليهود كانت خالية من الركوع، تماماً، بينما احتل الركوع مكان الرّكن الأساسي في صلاة المسلمين.
ومن الملفت للنظر أنّ الآية لم تقل «أدّوا الصلاة»، بل قالت: ﴿أقيموا الصَّلاَةَ﴾، وهذا الحث يحمّل الفرد مسؤولية خلق المجتمع المصلي، ومسؤولية جذب الآخرين نحو الصلاة.
بعض المفسرين قال إن تعبير «أَقيمُوا» إشارة إلى إقامة الصلاة كاملة، وعدم الاكتفاء بالاذكار والاوراد، وأهم أركان كمال الصلاة حضور القلب والفكر لدى الله سبحانه، وتأثير الصلاة على المحتوى الداخلي للإنسان.
يهذه الأوامر الأخيرة تتضمن في الحقيقة: أو بيان إرتباط الفرد بخالقه (الصلاة)، ثمّ إرتباطه بالمخلوق (الزكاة)، وبعد ذلك إرتباط المجموعة البشرية مع بعضها على طريق الله!.
بحث
هل يؤيّد القرآن ما جاء في التّوراة والإِنجيل؟!
في مواضع عديدة يصرّح القرآن بتصديقه لما جاء في الكتب الإِلهية السابقة، كما جاء في الآية المذكورة: ﴿مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ﴾ وكما جاء في الآيتين 89 و101 من سورة البقرة: ﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾.
وفي الآية 48 من سورة المائدة: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ﴾.
بعض دعاة اليهودية والنصرانية.
استدلوا بهذه الآيات لإِثبات عدم تحريف التوراة والإِنجيل.
وقالوا: إن التوراة والإِنجيل في عصر نبي الإِسلام لا يختلفان حتماً عمّا عليه الآن.
وإن أصابهما تحريف فهذا التحريف يعود إلى فترة سابقة على ذلك العصر.
ولما كان القرآن قد أيّد صحة التوراة والإِنجيل الموجودين في عصر نبي الإِسلام، فعلى المسلمين أن يعترفوا بصحة هذين الكتابين الموجودين بين ظهرانينا اليوم.
الجواب:
يؤكد القرآن في مواضع عديدة وجود علائم نبي الإِسلام ودينه في تلك الكتب المحرفة التي كانت موجودة في أيدي اليهود والنصارى آنذاك.
وهذا يعني وجود حقائق في تلك الكتب لم تمتد إليها يد التحريف، ذلك لأنّ التحريف لا يعني تغيير كل نصوص تلك الكتب السماويّة، بل إن تلك الكتب كانت تحمل بين طياتها حقائق، ومن تلك الحقائق علامات النّبي الخاتم (ولا زالت بعض هذه البشائر مشهودة في الكتب الموجودة الآن).
بعثة النّبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) وكتابه السماوي تصديق لما جاء في تلك الكتب من علامات، أي تحقيق عملي لِتلك العلامات.
وكلمة التصديق بمعنى (التحقيق العملي) وردت في مواضع اُخرى من القرآن الكريم كقوله تعالى لنبيّه إبراهيم (عليه السلام) : ﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾.
أي أنك قد حققت عملياً رؤياك.
وتصرح الآية 157 من سورة الأعراف بأن الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) تحقيق عملي لما يجدونه مكتوباً في التوراة والإِنجيل: ﴿اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيِّ الاُْمِّيَّ الَّذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبَاً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالاَْنْجِيلِ...﴾.
على أي حال، ليس في الآيات المذكورة دلالة على تصديق جميع محتويات التوراة والإِنجيل، بل دلالتها تقتصر على «التصديق العملي» لما جاء في الكتب الموجودة بيد اليهود والنصارى بشأن النّبي الخاتم وكتابه.
هذا، إلى جانب وجود آيات عديدة في القرآن تتحدث عن تحريف اليهود والنصارى لآيات التوراة والإِنجيل، وهو شاهد حيّ صريح على مسألة التحريف.
شاهد حيّ آخر
«فخر الإِسلام» - الذي كان من كبار قساوسة المسيحيين، وتتلمذ عند علمائهم حتى حاز مراتب كبيرة في الدراسات الكنيسة - يتحدث في مقدمة كتابه «أنيس الاعلام» عن انتقاله من المسيحية إلى الإِسلام فيقول:
«... بعد بحث طويل وعناء كبير وتجوال في المدن، عثرت على قسيس كبير متميز في زهده وتقواه، كان يرجع إليه الكاثوليك بما فيهم سلاطينهم، تعلمت عليه زمناً مذاهب النصارى، وكان له طلاب كثيرون، ولكنه كان ينظر إليّ من بينهم نظرة خاصة، وكانت كل مفاتيح البيت بيدي، إلا مفتاحاً واحداً لغرفة صغيرة، احتفظ به عنده....
وفي يوم اعتلّت صحة القسيس، فقال لي: قل للطلاب إني لا أستطيع التدريس اليوم.
حينما جئت الطلاب وجدتهم منهمكين في نقاش حول معنى «فارقليطا» في السريانية، و«پريكلتوس» في اليونانية... واستمر بينهم النقاش، وكل كان يدلي برأيه....
بعد أن عدت إلى الاُستاذ سألني عما كان يدور بين الطلاب، فأخبرته، فقال لي: وما رأيك؟
قلت: اخترت الرأي الفلاني.
قال القسيس: ما قصّرت في عملك، ولكن الحقّ غير ذلك.
لأن حقيقة هذا الأمر لا يعلمها إلا الراسخون في العلم، وقليل ماهم.
أكثرت في الالحاح عليه أن يوضح لي معنى الكلمة.
فبكى بكاءً مرّاً وقال: لم أخف عليك شيئاً... إن لفهم معنى هذه الكلمة أثراً كبيراً، ولكنه إن انتشر فسنتعرض للقتل! فإن عاهدتني أن لا تفشيه فسأخبرك... فأقسمت بكل المقدسات أن لا أذكر ذلك لأحد، فقال: إنه اسم من أسماء نبي المسلمين، ويعني «أحمد» و«محمّد».
ثم أعطاني مفتاح الغرفة وقال: افتح الصندوق الفلاني، وهاتِ الكتابين اللذين فيه، جئت إليه بالكتابين وكانا مكتوبين باليونانية والسريانية على جلد، ويعودان إلى عصر ما قبل الإِسلام.
الكتابان ترجما «فارقليطا» بمعنى أحمد ومحمّد، ثم أضاف الاُستاذ: علماء النصارى كانوا مجمعين قبل ظهوره أن «فارقليطا» بمعنى «أحمد ومحمّد»، ولكن بعد ظهور محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، غيّروا هذا المعنى حفظاً لمكانتهم ورئاستهم وأوّلوه، واخترعوا له معنى آخر لم يكن على الإِطلاق هدف صاحب الإِنجيل.
سألته عما يقوله بشأن دين النصارى؟ قال: لقد نسخ بمجيء الإِسلام، وكرر ذلك ثلاثاً، ثم قلت:
ما هي طريقة النجاة والصراط المستقيم في زماننا هذا؟ قال: إنما هي باتباع محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم).
قلت: وهل التابعون له ناجون؟
قال: إي والله، وكرر ذلك ثلاثاً.
ثم بكى الاُستاذ وبكيت كثيراً ثم قال: إذا أردت الآخرة والنجاة فعليك بدين الحق... وأنا أدعو لك دائماً، شرط أن تكون شاهداً لي يوم القيامة أنّي كنت في الباطن مسلماً، ومن أتباع محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)... وما من شك أن الإِسلام هو دين الله اليوم على ظهر الأرض».
وكما يلاحظ فإن هذه الوثيقة الهامة تصرّح بما فعله علماء أهل الكتاب بعد ظهور نبي الإِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) من تحريف لتفسير اسم النّبي وعلاماته، تحقيقاً لمصالحهم الشخصية.