الآيتان 1 - 2

الآيتان 1-2 من سورة البقرة

﴿الـم * ذَ لِكَ الكِتَـبُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِّلْمُتَّقِينَ﴾

التّفسير

تحقيق في الحروف المقطعة في القرآن:

تسع وعشرون سورة من سور القرآن تبدأ بحروف مقطعة، وهذه الحروف - كما هو واضح من اسمها - لا تشكل كلمة مفهومة.

هذه الحروف من أسرار القرآن، وذكر المفسرون لها تفاسير عديدة، وأضاف لها العلماء المعاصرون تفاسير جديدة من خلال تحقيقاتهم.

جدير بالذّكر أن التاريخ لم يحدثنا أنّ عرب الجاهلية والمشركين عابوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجود هذه الحروف المقطعة في القرآن.

ولم يتخذوا منها وسيلة للطعن والإستهزاء.

وهذا يشير إلى أنّهم لم يكونوا جاهلين تماماً بأسرار وجود الحروف المقطعة.

اخترنا من التفاسير الكثيرة لهذه الحروف، عدداً من التفاسير باعتبار مسنديتها وانسجامها مع آخر الدراسات في هذا المجال.

وسنذكر هذه التفاسير بالتدريج في بداية هذه السّورة، وسورة آل عمران، وسورة الأعراف، إن شاء الله.

ونبدأ الآن بأهمها:

هذه الحروف إشارة إلى أن هذا الكتاب السماوي، بعظمته وأهميّته التي حيرت فصحاء العرب وغير العرب، وتحدت الجن والإنس في عصر الرسالة وكل العصور، يتكون من نفس الحروف المتيسرة في متناول الجميع.

ومع أنّ القرآن يتكون من هذه الحروف الهجائية والكلمات المتداولة، فإن ما فيه من جمال العبارة وعمق المعنى يجعله ينفذ إلى القلب والروح، ويملأ النفس بالرضا والإعجاب، ويفرض احترامه على الأفكار والعقول.

في القرآن من الفصاحة والبلاغة ما لا يخفى على أحد، وليس هذا مجرّد ادّعاء، فخالق الكون تحدّى بهذا الكتاب جميع (الجن والإنس)، ليأتوا بمثله ﴿وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهيراً﴾، ولكنهم عجزوا جميعاً عن ذلك، وتلك دلالة على أن هذا الكتاب لم يصدر عن فكر بشر.

وكما إن الله تعالى خلق من التراب موجودات، كالإنسان بما فيه من أجهزة معقدة محيّرة، وكأنواع الطيور الجميلة الرائقة، والأحياء المتنوعة، والنباتات والزهور المختلفة، وكما إننا ننتج من هذا التراب نفسه ألوان المصنوعات، كذلك الله سبحانه خلق من هذه الحروف الهجائية المتداولة، موضوعات ومعان سامية، في قوالب لفظية جميلة، وعبارات موزونة، وأسلوب خاص مدهش معجز، وهذه الحروف الهجائية موجودة تحت تصرف الإنسان، لكنه عاجز عن صنع جمل وعبارات شبيهة بالقرآن.

الأدب في العصر الجاهلي

من المهم أن نذكر هنا أن العصر الجاهلي كان عصراً ذهبياً للأدب العربي.

فالوثائق المتوفرة بأيدينا تشير إلى أن العرب الحفاة الجفاة الجاهليين، كانوا يتمتعون بذوق أدبي رفيع.

وما وصلنا من شعر ونثر من تلك الفترة، يشير إلى قدرة أُولئك على التعبير الجميل الدقيق، ويحتل ذروة الفصاحة في الأدب العربي.

وكان للأدب سوق رائجة تدلّ على اهتمام العرب بلغتهم وآدابهم، و(سوق عكاظ) وأمثالها من الأسواق الأدبية تعكس هذا الإهتمام بوضوح.

والسوق المذكور كان يشهد - إضافة إلى المعاملات الإقتصادية والقضايا الإجتماعية - حركة أدبية تعرض خلالها أفضل مقطوعات الشعر والنثر، ويتم فيها انتخاب أفضل ما قيل من النظم خلال العام، و(المعلقات السبع) أو (العشر) نموذج لذلك، وكانت القصيدة الفائزة تعدّ فخراً كبيراً للشاعر ولقبيلته.

في مثل هذا العصر من الإنتعاش الأدبي، يتحدى القرآن النّاس أن يأتوا بمثله، ولكنهم عجزوا (سنذكر مزيداً من إعجاز القرآن في مجال التحدي لدى تفسير الآية 23 من هذه السّورة).

شاهد ناطق

الشاهد الناطق على هذا المنحى من تفسير الحروف المقطعة، حديث عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) حيث يقول: «كَذَّبَ قُرَيْشُ وَالْيَهُودُ بِالْقُرْآنِ وَقَالُوا هذَا سِحْرٌ مُبِينٌ، تَقَوَّلَهُ، فَقَالَ الله: ﴿الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ...﴾: أيّ يَا محمّد، هذا الْكِتَابُ الَّذِي اَنْزَلْتُهُ إلَيْكَ هُوَ الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعةُ الَّتي مُنْهَا اَلِفٌ وَلامٌ وَميمٌ، وَهُوَ بِلُغَتِكُمْ وَحُرُوفِ هِجَائِكُمْ فَأتوا بِمِثْلِهِ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ...».

وَثم شاهد آخر عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في قوله: «ثُمَّ قَالَ اِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى اَنْزَلَ هذَا الْقُرْآنَ بِهذِهِ الْحُرُوفِ الَّتِي يَتَدَاوَلُهَا جَمِيعُ الْعَرَبِ، ثُمَّ قَالَ: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ...﴾.

وهناك ملاحظة تؤيد ما ذهبنا إليه في تفسير معنى الحروف المقطعة، وهي أن هذه الحروف في السور الأربع والعشرين التي ذكرناها، يتلوها مباشرة ذكر لعظمة القرآن، وهذا يدل على الإرتباط بين الحروف المقطعة وعظمة القرآن.

وعلى سبيل المثال نذكر الآيات التالية:

1 - ﴿الر، كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكيم خَبِير﴾ .

2 - ﴿طَس، تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَاب مُبين﴾ .

3 - ﴿الم، تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ .

4 - ﴿المص، كِتَابٌ أُنْزِلَ إلَيْكَ﴾ .

بعد البسملة وذكر الآية الاُولى من سورة البقرة يقول تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾.

قد يشير هذا التعبير إلى أن الله تعالى وعد نبيّه أن ينزّل عليه كتاباً يهتدي به من طلب الحق، ولا يشك فيه من كان له قلب أو ألقى السمع وهو بصير، وها هو سبحانه قد وفى بوعده الآن.

وقوله: ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ ليس ادعاءً، بل تقرير لحقيقة قرآنية مشهودة، هي إنّ القرآن يشهد بذاته على حقّانيته.

وبعبارة اُخرى فإن مظاهر الصدق والعظمة والإنسجام والإستحكام وعمق المعاني وحلاوة الألفاظ والعبارات وفصاحتها من الوضوح بدرجة تبعد عنه كلّ شك.

من المشهود أن مرّ العصور وكرّ الدهور لم يقلل من طراوة القرآن، بل إن حقائق القرآن، ازدادت وضوحاً بتطور العلوم وبانكشاف أسرار الكائنات.

وكلما يازداد العلم تكام ازدادت آيات القرآن جلاء وسطوعاً.

وسنوضح هذه الحقيقة أكثر بإذن الله في مواضع اُخرى من هذا التّفسير.

بحوث

1 - لماذا الأشارة إلى البعيد؟

نعلم أن كلمة (ذلك) إشارة إلى البعيد في لغة العرب.

وقرب القرآن من أيدي النّاس يقتضي أن تكون الإشارة للقريب.

السبب في استعمال اسم الإشارة للبعيد يعود إلى بيان سموّ القرآن ورفعته، حتى كأنه - في عظمته - يحتل نقطة الذروة في هذا الوجود.

ومثل هذا الإستعمال يشائع في سائر اللغات أيضاً حين يراد الإشارة إلى شخص ذي منزلة كبيرة مث.

في بعض مواضع القرآن وردت أيضاً كلمة (تلك)، وهي اسم إشارة للبعيد أيضاً، مثل: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾.

والسبب فيه ما ذكرنا.

2 - معنى الكتاب:

«الكِتَابُ» يعني المكتوب والمخطوط، ولا شك أن المراد منه في الآية كتاب الله الكريم.

وهنا يثار سؤال حول سبب استعمال كلمة الكتاب للقرآن وهو آنئذ لم يكتب كلّه.

وفي الجواب نقول: استعمال هذه الكلمة لا يستلزم أن يكون القرآن كله مكتوباً.

لإن اسم القرآن يطلق على كل هذا الكتاب، وعلى أجزائه أيضاً.

أضف إلى ذلك أن «الكتاب» يطلق أحياناً بمعنى أوسع، ليشمل كل ما يليق أن يكتب فيما بعد، وإن لم يكن كذلك حين إطلاق اسم الكتاب عليه.

ففي آية اُخرى نقرأ: ﴿كِتَابٌ أنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾.

ومن المؤكد أن القرآن لم يكن بشكل كتاب مدوّن بين النّاس قبل نزوله.

وثمة احتمال آخر وهو إن التعبير بالكتاب يشير إلى كتابة القرآن في «اللوح المحفوظ».

3 - ما هي الهداية؟

كلمة (الهداية) لها عدة معاني في القرآن الكريم، وكلها تعود أساساً إلى معنيين:

1 - الهداية التكوينية: وهي قيادة رب العالمين لموجودات الكون، وتتجلى هذه الهداية في نظام الخليقة والقوانين الطبيعية المتحكمة في الوجود.

وواضح أن هذه الهداية تشمل كل موجودات الكون.

يقول القرآن على لسان موسى (عليه السلام) : ﴿رَبُّنَا الَّذِي أعْطَى كُلَّ شَيْء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾.

2 - الهداية التشريعية: وهي التي تتم عن طريق الأنبياء والكتب السماوية، وعن طريقها يرتفع الانسان في مدارج الكمال، وشواهدها في القرآن كثيرة منها قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾.

4 - لماذا اختصت هداية القرآن بالمتقين؟

واضح أن القرآن هداية للبشرية جمعاء، فلماذا خصت الآية الكريمة المتقين بهذه الهداية؟

السبب هو أن الإنسان لا يتقبل هداية الكتب السماوية ودعوة الأنبياء، مالم يصل إلى مرحلة معينة من التقوى (مرحلة التسليم أمام الحق وقبول ما ينطبق مع العقل والفطرة).

وبعبارة اُخرى: الأفراد الفاقدون للإِيمان على قسمين:

قسم يبحث عن الحق، ويحمل مقداراً من التقوى يدفعه لأن يقبل الحق أنّى وجده.

وقسم لجوج متعصب قد استفحلت فيه الأهواء، لا يبحث عن الحق، بل يسعى في إطفاء نوره حيثما وجده.

ومن المسلم به أن أفراد القسم الأول هم الذين يستفيدون من القرآن أو أيّ كتاب سماوي آخر، أما القسم الثاني فلا حظّ لهم في ذلك.

وبعبارة ثالثة: كما إنّ «فاعليّة الفاعل» شرط في الهداية التكوينية وفي الهداية التشريعية، كذلك «قابلية القابل» شرط فيهما أيضاً.

الأرض السبخَةُ لا تثمر وإن هطل عليها المطر آلاف المرات، فقابلية الأرض شرط في استثمار ماء المطر.

وساحة الوجود الإنساني لا تتقبّل بذر الهداية ما لم يتمّ تطهيرها من اللجاج والتعصب والعناد.

ولذلك قال سبحانه في كتابه العزيز أنه: ﴿هُدىً لِلْمُتَقِينَ﴾.